البريد في الواحات.. رسائل عبرت الصحراء على ظهور الجمال

للبريد في مصر حكايات ممتدة عبر الزمن، لكن أبرزها كانت في المناطق المعزولة بقلب الصحراء مثل الواحات (محافظة الوادي الجديد)، حيث كانت الرسائل الورقية تُحمل على ظهور الجمال، تطوي الصحراء في صمت، حاملة بشائر الغائبين وأخبار العائدين.
هناك، لم يكن البريد مجرد مصلحة حكومية، بل نافذة للأمل والتواصل، وصوتا يطرق أبواب البيوت الطينية، وقلبا ينبض برسائل تصل من بعيد.. «باب مصر» يستعرض معكم حكاية البريد في الواحات، وكيف كان الأهالي ينتظرون الرسائل، وقصة أول مكتب بريد في الخارجة.
قبل ظهور القطار.. رسائل على ظهر الجِمال
«الرسالة زمان كانت جسرًا بين القرى والعالم. وكان الجمل يقوم بعمل ساعي البريد قبل أن يأتي عصر الحديد»، هكذا قال إبراهيم خليل، مدير مكتبة مصر العامة سابقا وأقدم مؤرخ واحاتي في حديثة لـ«باب مصر».
وأردف قائلا: في سنواتٍ لم تعرف السيارات طرقها، كانت الجِمال تمثل وسيلة التواصل اليومية للبريد. وكانت لذلك طقوس تتمثل في تعبئة الأجولة بالجوابات، وختم الأوراق، وصيحات من يعلن قدوم القوافل. وقبل ظهور القطار والسيارات لاحقا، كانت الجِمال هي وسيلة الاتصال الوحيدة بين الواحات والعاصمة.
ويروي المؤرخ إبراهيم خليل ذكريات تلك الفترة فيقول: “كانت الجمال تحمل على ظهورها “الجوابات” عبر الصحراء لأسابيع طويلة. وسط المخاطر والعواصف، فوق رمالٍ تُرهف لها حواس الهواء. سارت قوافل تحمل بين حمولتها أوراقًا بها أخبار الأحبة وقرارات الإدارة، وقلبا ينبض برسائل تصِل من بعيد”.
ويتابع: “كانت القافلة تنزل على الواحة وكأنها خبر سعيد -الجواب- لو كان خبر موت أو فرح. كان يصل والناس كلها تقف في انتظار القافلة. وحين شُقّت أولى قضبان السكة الحديد تغيّر المشهد. لكن لم تختفِ ذكريات الجمل، بل تحوّلت إلى فصلٍ آخر من الحكاية. القطار دخل وهون على الناس انتظارهم، لكن لم يمح الجمل من ذاكرة الأجيال”.

رسائل تجمع العائلات
تحكى منى عبد الرحيم، 73 عاما، وهي من سكان مدينة الخارجة، بحنين بالغ عن وصول الجوابات الورقية قديمًا، فتقول: “على ضوء المساء كانت الرسائل تجمع العائلات، وتخلق مساحة للحكي والاشتياق بين الناس. فكيف لا وقد كان الجواب يُقرأ داخل البيت وسط الأهل والأحباب”.
وتتابع: “الستات زمان كانوا بيستنوا البوسطجي بفارغ الصبر، وكل جواب كان بيخلق حكاية جديدة في البيت. الرسالة كانت بتتقرى أكتر من مرة وتفضل متعلقة في الذاكرة. النهاردة لما بنشوف المبنى اللي كان مكتب بريد زمان، مش بنشوف جدران. بنشوف تاريخ من الحنين والانتظار”.
أول مكتب بريد في الخارجة
خلف المجمع الإسلامي الكبير بمدينة الخارجة، يقع أول مبنى بريد في الواحة. المبنى لم يكن مجرد طوب وحوائط، بل كان عنوانا لحضور الدولة في قلب الصحراء. ويصفه أحد كبار السنّ، العم طلعت شاروبيم، 86 عاما، قائلا: “المكتب كان لونه طيني وسقفه عالي، والموظف بيدوّن بكل احترام في دفتر كبير ونحن نقف أمامه. كان المكان رمزا للنظام والاطمئنان”.
ويضيف شاروبيم: ظلّ المبني مستخدمًا حتى منتصف السبعينيات قبل أن يغلق ويترك لمهبّ الرياح. “النهاردة المكتب مهجور وتحول إلى مخزن لإحدى شركات المياه الغازية، لكن كل حجر فيه له تاريخ. وما زالت اللافتة المعدنية القديمة موجودة، وعليها شعار البريد المصري المحفور بإتقان، ياريت كانوا طوروه بدل ما يقفلوه”.

جواب نادر منذ عام 1937
يعود إنشاء مكتب بريد الخارجة إلى نحو عام 1907. وهو مبنى طيني ذو طراز معماري تقليدي (طوب لبن، أبواب منقوشة، أسقف مرتفعة)، ولا تزال بعض أجزائه قائمة حتى اليوم. وبحسب الباحث الواحاتي محمود عبد ربه، كانت الخدمات في بدايتها بدائية داخل المكتب. وكان يقوم بها موظف واحد فقط يجلس في حجرة صغيرة، يتولى تسجيل وتجهيز الجوابات وفتح دفاتر التوفير.
وأشار عبد ربه إلى أنه من بين هذه الجوابات النادرة التي يحتفظ بها مكتب البريد الرئيسي بالخارجة، خطاب مرسل من مكتب بريد الواحات الداخلة عام 1937 إلى: S.A Samir عنوانه في كلية تشيلمسفورد- إنجلترا. وقد حصل «باب مصر» علي نسخة منه.

إدارة البريد ومكانة الوادي الجديد
طوال عقود، كانت مكاتب بريد الواحات إداريا تتبع منطقة بريد أسيوط، ولم يأت التغيير الإداري بين ليلة وضحاها. فقد ظلّت تبعية مكاتب الواحات (ومن ضمنها البريد) لإدارة محافظة أسيوط لسنوات. حتى صدر عام 1958 قرار فصلها لتصبح محافظة مستقلة باسم محافظة الوادي الجديد، في خطوة هدفت إلى تسهيل إدارة هذه المنطقة النائية، ودعم خطط تنميتها بعيدًا عن المركز الإداري في الصعيد.
وبعد هذا التغيير الإداري، صارت الخدمة أقرب إلى الناس. كما يصفها الباحث الواحاتي: “لما تحولت تبعيتنا، حسّينا بفرق.. سرعة القرار دخلت على الخدمة”. واليوم، ومع تطور الخدمات والنمو السكاني وعمليات التعمير. أصبحت هناك هيكلة إدارية محلية لبريد الوادي الجديد، مع وجود إدارة إقليمية في بالمحافظة. حيث تم تطوير مكاتب البريد وربطها بخدمات رقمية.
اقرأ أيضا:
«الثوب الواحاتي» يقاوم النسيان.. من منزل «أم هادي» تبدأ الحكاية
قرية «حسن فتحي» تعود للأضواء مع احتفالات العيد القومي الـ66 للوادي الجديد