الأغاني الشعبية: رحلة اندثار تراث الأجداد خلف ضوضاء الدي جي
كانت الأغاني الشعبية التراثية القديمة في الصعيد، وتحديدا في أسيوط، والتي كان يُتغنى بها في الأفراح والمناسبات المختلفة، وفى أيام الحصاد وجمع القطن، تمثل جزءا أصيلًا من شخصية المواطن الأسيوطي. وكانت تلك الأغاني ذاكرة حقيقية للعراقة والثقافة الشعبية. ومع الوقت بدأت أصوات «الدي جي» تعلو على أصوات وأنغام الدف والمزمار والربابة والطبلة، واستطاعت أن تزيح كثيرا من تلك الثقافة الغنائية.
ولم تعد الأغنية الصعيدية التي اعتاد الأهالي سماعها الأهالي حاضرة في أفراحهم ومناسباتهم، إذ طغت الأغاني والإيقاعات الإلكترونية والأغاني الصاخبة على الذوق العام، وازداد هذا التأثير مع الأجيال الجديدة. ويطرح هذا التحول العديد من التساؤلات حول مصير التراث الغنائي الشعبي في أسيوط، وخاصة في النجوع والقرى البعيدة عن المدينة.
أغاني أسيوط زمان
تجلس السيدة السبعينية حسناء السيد أمام منزلها في إحدى قرى محافظة أسيوط، وتدندن بصوتها العذب وإيقاع الكلمات التي توارثتها عن الأجداد: “دخل الجنينه والعنب زغرتله.. دخل الجنينه والعنب غناله.. ده عريسنا الزين محلاه.. ويا محلى جماله”.
وتنتقل بصوتها الدافئ: “يا حلاوتك يا ستفندي يا ابن عم البرتقال.. يا حلاوتك وإنت طارح في الجنينه وفي الأوان.. عريسنا في بيت أبوه وأربعة بيلبسوه.. وعروستنا تقول هاتوه.. دا وحشني من زمان”.
وتقول السيدة حسناء، بصوت يحمل خشونة الأرض وحنان الأمهات: “الأغاني الشعبية مش مجرد كلمات نتوارثها من سنين، دي طقس يومي شعبي بتتجمع فيه الستات للفرح والسعادة”.
وتتابع: “زمان مكانش الغنا محتاج فرح عشان نغني. كنا بنتجمع في العصاري، خصوصا في الأفراح والمواسم، نردد الأغاني اللي حافظينها. كانت البهجة وقتها بسيطة وصادقة وطالعة من القلب. حتى كلمة العنب في الأغنية مش كلمة عادية، دي بشارة خير وبداية للفرح ودخول العريس بيته وحياته الجديدة”.
وترى حسناء أن الأغاني الشعبية القديمة تختفي ببطء، والأجيال الجديدة لا تعرف عنها إلا القليل. وتقول: “الأغاني الجديدة السريعة اللي مش بنفهم منها حاجة بقت هي المحفوظة. ولو سمعوا أغاني زمان ورددوها هيعرفوا معنى المحبة والهدوء وحب الخير واللمة الحلوة اللي اختفت”.
أفراح زمان كانت أحلى
أما السيدة نجوى علي، ستينية من إحدى قرى أسيوط، فتتحدث عن أفراح زمان التي كانت تحييها النساء على إيقاع الطبلة: “أفراح زمان كانت أحلى.. كنا نطلع السطوح أو الشارع، ونقعد مع بعض في دواير، والستات يغنوا مواويل وأغاني جميلة. كنا نسمع مثلا: يا عريس قوم وأفرح، ويا عروسة هاتي الكحل”.
وتكمل نجوى: “الأغاني القديمة الجيل الجديد ما يعرفهاش. الأفراح اتغيرت.. الـدي جي دخل ودفن أغانينا. مبقاش حد عاوز يسمع كلام هادئ أو موال طويل، كلهم عاوزين كلام سريع وصوت عالي”.
الأفراح أصبحت نسخة مكررة
تضيف نجوى، وحنين الماضي يلمع في عينيها: “الأفراح بقت نسخة مكررة.. نفس الأغاني ونفس الزحمة. زمان البنات كانت تتجمع وتغني: “يا صغيرة يا أحلى بنات العيلة خوفي عليكي من الحسد الليلة”، و “رشوا الشارع مية.. دي عروسة الغالي جاية”.
وتتنهد قائلة: “دلوقتي كل واحدة رايحة الفرح ماسكة الموبايل وبتصور، روح الفرحة اختفت. أغانينا الجميلة بتضيع، ولو راحت مش هترجع تاني”.
طقوس الفرح.. قبل اختفائها
لم تكن أغاني التراث الشعبي في أسيوط مجرد موسيقى، بل كانت طقسا من طقوس الفرح تسمعه قبل أن تراه يلمس فؤادك ويسعد العقل والروح. هكذا بدأت السيدة سعدية حسين، قائلة: “لسه فاكرة زي النهاردة الساعات اللي قبل الزفة. كنا نتجمع قدام البيوت، كل واحدة ماسكة دفها، وتبدأ الأصوات تعلى بالأغاني: عند بيت أم فاروق هاي هاي.. الشجرة طرحت برقوق هاي هاي.. واللي بحبه جدع مرزوق.. عند بيت أم حنان.. والشجرة طرحت رمان.. واللي بحبه جدع عجبان”.
وتكمل سعدية بروح يغمرها الحنين: “الأغنية زمان كانت تفرح القلب.. ساعات بحس الزمن بيبص لنا ويفكرنا باللي كنا عليه. الحكايات الصغيرة اللي في الأغاني القديمة اختفت.. والأوقات اللي كنا فيها نفس واحد بتتنسي”.
التراث الغنائي الشعبي والفلكلور
يوضح المايسترو نصر الدين أحمد، مدرب بقصر ثقافة أسيوط، الفرق بين الفلكلور والتراث الغنائي الشعبي: “الفلكلور ليس له مؤلف موسيقي أو شاعر فهو من تأليف الشعب. الناس قديمًا قاموا بتأليفه على المصاطب وفي الشوارع. لما نغني يا حنة يا حنة يا قطر الندى، أو اتكحرت وأجري يا رمان، أو وحوي يا وحوي… دي كلها فلكلور شعبي”.
أما التراث الغنائي فهو الأغاني التي مر عليها مئة عام أو أكثر، مثل ألحان القصبجي والسنباطي وسيد درويش وعبد الوهاب. ويشير أحمد إلى ضرورة التفريق بين التراث والأغاني الشعبية التراثية.
فرق الأفراح الشعبية في التسعينات
يضيف أحمد أن اختفاء الأغاني الشعبية صاحبه اختفاء الفرق الشعبية في الأفراح، التي كانت منتشرة في التسعينات. ومع دخول الدي جي بدأ هذا اللون يتراجع، خاصة أن الجانب المادي لعب دورا كبيرا، فبدلا من أن يتكلف الفرح عشرين ألف جنيه – على سبيل المثال- أصبح مع الأجهزة الإلكترونية الحديثة لا يتجاوز أربعة آلاف جنيه. وهنا يظهر أن السبب مادي بحت أكثر منه فني أو اجتماعي.
العدو الحقيقي لاندثار الأغنية الشعبية
حول السبب وراء اندثار الأغنية الشعبية، يقول حسام عبد العزيز، الكاتب المسرحي الأسيوطي: “ساهمت التكنولوجيا بنصيب كبير في تراجع وانزياح التراث والأغنية الشعبية المصرية. فمع ظهور التكنولوجيا التي وفرت الوقت والعمالة، تخلى الفلاح المصري عن الكثير من طقوسه وعاداته القديمة، التي كان من أبرزها التجمع مع عائلته وجيرانه. فقد كان العمل قديما مقسمًا لمجموعات، كل مجموعة مسؤولة عن مهام معينة، مجموعة عليها الطعام، وأخرى عليها الأغاني وأخرى الحصاد، ومع ظهور التكنولوجيا كان التأثير السلبي واضح على تلك المجموعات، وتم إهمال ممارسة الكثير من العادات والطقوس في العمل الزراعي والأفراح وحتى المآتم، واختفى بالتالي من برعوا في تأليف تلك الأغاني التي كانت تغنى في المواسم والأفراح وغيرها من مناسبات، وظهر نوع آخر من الأغاني الركيكة التي تغنى بدون أي مناسبة احتفالية”.
ويتابع عبد العزيز: “ورغم كل هذا مازالت أسيوط تقاوم موجات ال دي جي وما يصاحبها من ضوضاء وصخب، لتحافظ على ما تبقى من تراثها الغنائي الشعبي، وحتى تعرف الأجيال الجديدة أن التراث صوتًا حيًا يقاوم ما تمر به الذائقة الشعبية من انحدار”.
اقرأ أيضا:
«مسجد اليوسفي» في أسيوط.. أربعة قرون من التاريخ انتهت تحت الجرافات



