إزالة ترب باب النصر لبناء «جراج» متعدد الطوابق!
هدم 1171 مقبرة جريمة جديدة ضد تراث المدينة..أخطر مما جرى لجبانات الشافعي والسيدة نفيسة
لم نعد نسمع عن دخول قطار التطوير في القاهرة القديمة محطة جديدة، إلا ويكون المرادف هو هدم جزء من تراث المدينة وحذفه من سجلاتها. وبعد أن دهس بلدوزر الحكومة بعض أجزاء جبانات القرافة الصغرى (الإمام الشافعي) والسيدة نفيسة، جاء الدور على جبانة ترب باب النصر، التي تعد واحدة من أقدم جبانات القاهرة المسورة. إذ تبلغ من العمر أكثر من 900 عام. لكن التعدي على ترب باب النصر بات عرضا مستمرا لبناء مبنى قبيح عبارة عن جراج متعدد الطوابق، لخدمة السياح. أي أن إزالة تراث المدينة يتم لصالح منشآت معادية للبيئة وتؤثر سلبا على محيطها من الآثار.
معاول الهدم بدأت في إزالة معالم ترب باب النصر. إذ كشف اللواء إبراهيم عبد الهادي، نائب محافظ القاهرة للمنطقة الغربية، لموقع “اليوم السابع”، عن عدد من الموضوعات “التي ستغير بشكل كبير من العاصمة”. وأبرزها إزالة جزء كبير من مقابر باب النصر، لإقامة جراج متعدد الطوابق. دون الإعلان عن إي حفريات أثرية للتأكد من خلو المنطقة من الآثار المهمة في تبيان تطور منطقة مهمة جدا في تاريخ القاهرة. إذ يعود تاريخ استيطان المنطقة بشكل متصل لأكثر من ألف سنة من الزمن.
نائب محافظ القاهرة قال إنه يتم تطوير منطقة ترب باب النصر “لإقامة جراج متعدد الطوابق لخدمة زوار منطقة القاهرة التاريخية المواجهة لمنطقة المقابر. ويجري حاليا إخلاء جزء من مقابر المنطقة يسار باب النصر – شارع البنهاوي. وقد تم تحديده بمعرفة صندوق التنمية الحضرية، بعمق 100م جنوب شارع نجم الدين ابتداء من شارع البنهاوي ومساحة حوالى 212000م. وإجمالي عدد المقابر 1171 مقبرة، و49 مدفن. وصدر قرار محافظ القاهرة رقم 1117 لسنة 2024 بإيقاف الدفن في تلك المدافن. واتخاذ الإجراءات اللازمة لنقل الرفاة بالمدافن البديلة التي تم التصديق عليها بمنطقة الخالدين بالعاشر من رمضان. ويتم حاليا نقل الرفاة إلى المدافن البديلة تباعاً بالتنسيق مع ذوى الشأن. حيث تم إخلاء ونقل حوالى 200 حالة”.
***
هكذا نفهم حجم التعدي القادم على جزء مهم من جبانات القاهرة، إذ تقرر التعمق في إزالة المقابر بعمق 100 متر. أي ما لا يقل عن ثلث المقابر الموجودة في المنطقة، بإجمالي 1171 مقبرة. وهو رقم لا يعبر إلا عن مذبحة للمقابر وإزالة شبه كاملة للمنطقة، في جريمة تراثية جديدة وقد تكون أخطر وأكثر عمقا مما جرى لجبانات الشافعي والسيدة نفيسة والتونسي. ويبدو المسؤول هنا غير مهتما بالقيمة الحضارية والتراثية لترب باب النصر، فأمام تسييل المدينة وتحويلها إلى مقصد استهلاكي ترفيهي يزال التراث والتاريخ بدماء باردة.
الكارثة الجديدة التي تتعرض لها جبانات القاهرة، تأتي في إطار سلسلة من الكوارث التي تضرب الجبانات. بداية من العام 2020، عندما أزالت الحكومة خط مقابر على طريق صلاح سالم في منطقة ترب الغفير غير البعيدة عن ترب باب النصر. ثم توالت الاعتداءات الحكومية على جبانات القاهرة بهدف إقامة شبكة من الطرق والكباري. خصوصا في القرافة الصغرى وترب السيدة نفيسة، خلال العامين الماضيين، لتأتي الضربة الجديدة لتزيل ترب باب النصر بلا أي احترام لتراث المنطقة المغرقة في التاريخ.
وفي فبراير الماضي، أصدرت محافظة القاهرة قرارا بوقف الدفن في ترب باب النصر، وجاء القرار بمخاطبة مديرية الشؤون الصحية بالمحافظة. وجاء نصه: “أرسل لسيادتكم رفق هذا صورة قرار محافظ القاهرة رقم 1117 لسنة 2024، بشأن إيقاف الدفن بجبانة باب النصر”. بعدها أبلغ موظفو المحافظة التربية وحراس الأحواش بترب باب النصر، بوقف الدفن فيها. تمهيدا لإزالة المقابر المطلة على شارع البنهاوي الفاصل بين المقابر وسور القاهرة الشمالي. وهو ما بدأت فيه أجهزة المحافظة بالفعل.
***
يبدو أن المسؤولين لا يعرفون قيمة ترب باب النصر ولا الأهمية التاريخية التي تمثلها. إذ تعد من أقدم أجزاء جبانات القاهرة، بعد القرافة الكبرى مباشرة. وبدأ تكوين هذه الجبانة الواقعة شمال السور الشمالي لمدينة القاهرة الفاطمية، منذ أن دفن الوزير الفاطمي القوي بدر الجمالي (توفى سنة 487هـ/ 1094م)، في مقبرته خارج باب النصر. ومنذ هذه اللحظة بدأت عملية بناء المقابر في المنطقة. ويقول المقريزي عن هذا في كتابه (المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار): “أعلم أن المقابر، التي هي الآن خارج باب النصر، إنما حدثت بعد سنة ثمانين وأربع مائة. وأول تربة بنيت هناك تربة أمير الجيوش بدر الجمالي، لما مات ودفن فيه، وكان خطها يعرف برأس الطابية”.
تطورت عمليات الدفن في الساحة الموجودة أمام باب النصر، والتي كانت في الأصل مصلى العيد للفاطميين. ففي العصر الأيوبي أخذ صوفية خانقاه سعيد السعداء بالجمالية، قطعة كبيرة بمساحة فدانين تقريبا، وأداروا عليها سورا من حجر، وجعلوها مقبرة لمن يموت منهم. فعرفت باسم تربة الصوفية، والتي توسعت بعد سنة 790هـ/ 1388م، بقطعة من تربة قراسنقر، بحسب ما يذكر المقريزي. ودفن العديد من العلماء الكبار في هذه المقبرة التي عرفت باسم حوش الصوفية. أمثال: العالم النحوي أبي حيان الغرناطي، وتلميذه جعفر الأدفوي صاحب كتاب “الطالع السعيد الجامع لأسماء نجباء الصعيد”، وابن هشام النحوي. وشيخ الإسلام تقي الدين السبكي، والعلامة ابن خلدون، ومؤرخ القاهرة الأعظم تقي الدين المقريزي.
***
ومن الأسف أن التعدي على مقابر باب النصر له سوابق. ففي مطلع الألفية الجديدة أزيل جانب من مقابر باب النصر، وقيل إنها تضمنت حوش الصوفية بما فيه من مقابر ابن خلدون والمقريزي. تنفيذا لمشروع تربط الدراسة بباب الشعرية. عبر توسيع شارع جلال، وربطه بشارع البنهاوي، ودارت عجلة البلدوزر وسحقت المقابر. وقتها نادى بعض أصحاب الأقلام بوقف هذه المهزلة التي تمس قبور رموز وطنية. إلا أن التحديث كان له الرأي الغالب، وإن كان من المهم هنا أن نشير إلى أن الشكوك لا تزال تحوم حول موقع حوش الصوفية. إذ ربما يكون في منطقة أقرب إلى الدراسة وترب المجاورين لا ترب باب النصر.
ومن العلامات الاستدلالية المهمة في منطقة باب النصر، قبر زينب بنت أحمد بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن الحنفية. والذي تسميه العامة مشهد الست زينب. وهو مكان يجب الحفاظ عليه بجوار قبة الشيخ يونس السعدي، التي هي في الحقيقة قبة بدر الجمالي، لأن هاتين القبتين من المواقع النادرة التي احتفظ لنا الزمن بموقعهما. ومن خلالهما يمكن تحديد العديد من المواقع الأخرى المذكورة في كتب التاريخ الحولي والخطط والمزارات. وقد درست الدكتورة جليلة القاضي في كتابها المشترك مع آلان بونامي، «عمارة الموتى: جبانة القاهرة في العصور الوسطى»، ترب باب النصر. والتي أطلقت عليها مسمى “الجبانة الخشبية”، كاشفة عن التنوع الفني والزخرفي الهائل في المكان والذي يحتاج لرعاية وحفاظ لا هدم ونسف. كونها تضم مجموعة من المقصورات الخشبية التي تحيط بالأضرحة، وهي مجموعة نادرة لا تتواجد في أي مكان آخر.
***
إن ترب باب النصر أكثر هشاشة من غيرها من جبانات القاهرة. كونها شبه معزولة ومحاطة بتوسعات عمرانية من جميع الجهات تقريبا. والمساحة المتبقية منها حاليا لا تشكل إلا بعض مساحتها الإجمالية التي امتدت يوما إلى حدود صحراء الريدانية الجنوبية، وهي مساحة شاسعة. وإذا كان التعدي على ترب باب النصر في الماضي كان يمكن تبريره بعدم وجود وعي بالتراث وضرورة الحفاظ عليه. فإن هذه الحجة تسقط تماما مع واقع يومنا هذا بعدما أصبح الوعي بالتراث حقيقة لا يمكن تخطيها. خصوصا إذا كان المراد من إزالة هذه المقابر هو إقامة جراج متعدد الطوابق في حرم منطقة أثرية. بما يعني ذلك من زيادة معدلات التلوث ومعدل الاهتزازات في الأرض، ما يؤثر سلبا على آثار في المنطقة تتعدى الألف عام.
لا أحد ضد التطوير والتحديث. لكن شريطة ألا يكون هذا كله على حساب تراث مدينة القاهرة المستباح. فلا يمكن لعاقل أن يتصور أن تتم إزالة مقابر باب النصر لإقامة جراج متعدد الطوابق في مواجهة أسوار القاهرة الشمالية وبابي النصر والفتوح. ما يعني تشويه بصري بالمقام الأول، فضلا عن أن القرار الحكومي بإزالة ذلك القدر الهائل من المقابر يعني فعليا إبادة ترب باب النصر بالكلية. ليصبح هذا المصطلح أثرا بعد عين، تحت ضجيج السيارات التي تدهس تراث القاهرة بشكل يومي وبلا أي رؤية تحفظ هذا التنوع الهائل لمدينة يفترض أنها مسجلة على قوائم التراث العالمي لليونسكو.
اقرأ أيضا:
من جديد.. معاول الهدم تستأنف إزالة الجبانات التاريخية بعد وقف الدفن بها
محو القاهرة.. تدمير ذكريات المدينة