إرث على حافة النسيان.. هل يعود قصر «شحاتة سليم باشا» إلى واجهة السويس؟

في أحد شوارع السويس القديمة، يقف أحد القصور صامتا، لكن جدرانه لا تكفّ عن الحكي. من بين النقوش والزخارف  والأعمدة الشاهقة، تهمس الأحجار بحكاية رجلٍ أحب مدينته، فصاغ لها تحفة معمارية تنبض بالفن والكرم والانتماء.

إنه قصر «شحاتة سليم باشا»، أحد أعيان السويس في النصف الأول من القرن العشرين، الذي لم يكتفِ ببناء مجدٍ شخصي، بل ترك إرثًا معماريًا وإنسانيًا يحكي قصة مدينة كاملة. هنا، تتقاطع العمارة الإسلامية بالزخرفة الإغريقية، ويتقاطع التاريخ بالهوية، في قلب حي “الغريب”، حيث الزمن لا يمحى من الذاكرة الحجرية.

من هو شحاتة سليم باشا؟

وُلد شحاتة سليم عام 1895 في محافظة السويس، لعائلة من أعرق العائلات السويسية، مثل عائلة البرقي وشلاضم. شقّ طريقه في الحياة عبر مجال النقل البحري. وكان يعمل في توريد واستيراد مخلفات السفن، حتى أصبح من أبرز أعيان السويس في القرن العشرين.

ولم يكن ثراء شحاتة سليم هدفًا شخصيًا بقدر ما كان وسيلة لأداء واجب اجتماعي. فاشتهر بأعماله الخيرية، وأسّس جمعيات لجمع التبرعات من الأعيان وتوزيعها على الفقراء دون أهداف ربحية. حتى أن الملك فاروق منحه لقب “باشا” تقديرًا لمساهماته الخيرية. وبخاصة بعد تبرعه ببناء مستشفى الصدر.

قصر شحاتة سليم: حلم معماري

في عام 1928، قرر شحاتة سليم باشا تشييد قصر يعكس شخصيته الذواقة، ومكانته الاجتماعية. ويجمع بين الجمال والرقي. استعان بعدد من المعماريين والرسامين الإيطاليين لتصميم وتنفيذ هذا المشروع.

واختار طراز العمارة الإسلامية كأساس. لكنه دمجه بعناصر زخرفية أوروبية وإغريقية، فخرج القصر تحفة فنية تعكس التنوع والثراء الثقافي.

قصر شحاتة سليم باشا في السويس
قصر شحاتة سليم باشا في السويس
موقع القصر المتميز وسط قلب السويس

يقع القصر في موقع استراتيجي بشارع الجيش عند تقاطع شارعي 23 يوليو وخالد بن الوليد. وهو من أبرز شوارع المدينة، ويواجه مباشرة مستشفى الهلال ومقهى “نجوم الرياضة”. هذا الموقع جعله بارزًا لكل من يمر في المنطقة، حتى أن سكان الحي يعتبرونه جزءًا من هويتهم اليومية. ويصفونه بأنه “القصر الذي لا يمكن تجاهله”.

والقصر يتكون من طابقين وحديقة واسعة، ويحيط به سور حديدي فاخر من دون أي لحام. صنع بتقنيات فرنسية وإيطالية مشابهة لتلك التي شيد بها برج إيفل وكوبري إمبابة. الزخارف على الواجهات تأخذ طابع المدرسة الإغريقية، مثل زخرفة “البيضة والسهم”، والفرنتونات، والأعمدة الأيونية.

وأسفل شرفاته، يبرز تمثالان لنسرين مجنحين، ما يمنح المبنى طابعًا فخمًا. ويبرز براعة الفنانين الإيطاليين الذين نفذوا أدق تفاصيله.

القصر من الداخل: فن وإبداع في كل زاوية

لا يقل الداخل روعة عن الخارج. الأرضيات مصنوعة من الرخام الفاخر في الطابق الأرضي، ومن خشب الأرو والزان في الطابق العلوي. درابزين السلالم من النحاس الخالص، والمقابض والأبواب نفذت بدقة عالية. الجدران والأسقف مزخرفة يدويا بالجص على يد فنانين مهرة.

وكل غرفة بالقصر تحمل لمستها الخاصة. من حيث الزخارف النباتية، وتصميم النوافذ، وتوزيع الضوء. نوافذ القصر الكبيرة تسمح بدخول ضوء الشمس الطبيعي. ما جعله صحيًا وخاليًا من الرطوبة طوال عقود.

أسلوب البناء البغدادي: فن مهدد بالاندثار

ما يميز القصر أيضًا، أنه بني وفقًا للنمط البغدادي الذي كان شائعًا في أحياء السويس القديمة كـ”الغريب” و”السلمانية” و”كفر كامل”.

وهذا النمط لا يعتمد على الخرسانات المسلحة، بل على أعمدة رخامية خشبية وأسقف مدعّمة بزخارف دقيقة. اليوم، تندثر ملامح هذا الفن المعماري نتيجة الإهمال والتطور العمراني العشوائي. ما يجعل من قصر شحاتة سليم مرجعًا حيًا لفهم هذا النمط.

والنوافذ الكثيرة التي تغطي جدران القصر تسمح بتوزيع الضوء الطبيعي في كل أرجائه. ما يمنحه مناخًا صحيًا على مدار السنة. كما يساهم التصميم في التهوية الجيدة، وهو أمر نادر في المباني التاريخية. مما ساعد في بقائه بحالة معمارية جيدة نسبيًا حتى بعد مرور قرابة قرن من الزمن.

القصر بين الاستخدام الاجتماعي والهوية الثقافية

بعد وفاة شحاتة سليم باشا، استخدم القصر في الستينيات كمقر ثقافي ورياضي تابع لنقابة العاملين بالبترول. ثم اشترته إحدى شركات البترول، وتم تخصيصه لإقامة المناسبات الاجتماعية وتنظيم الأنشطة الرياضية والثقافية. ورغم هذا الاستخدام، لم تتخذ خطوات حقيقية لترميمه أو تحويله إلى مزار سياحي أو متحف تراثي يليق بقيمته.

ولم تكن مساهمة شحاتة سليم قاصرة على القصر، فقد تبرع بقطعة أرض وبنى عليها مستشفى خيري لعلاج مرضى الصدر في أربعينيات القرن الماضي. وسجّلها رسميًا لخدمة أهالي السويس، لتكون أول مبادرة خيرية من نوعها في تاريخ المدينة. وبسبب هذه الخطوة، كرّمه الملك فاروق ومنحه لقب “باشا”. وهو اللقب الذي لم يمنح إلا لقلة من رجال الأعمال في تلك الحقبة.

تراث يحتاج إلى إنقاذ: صرخة المختصين وخطط الترميم الغائبة

يؤكد الدكتور علي السويسي، أستاذ الفنون التشكيلية بجامعة السويس، أن القصر يعد من القصور النادرة في منطقة القناة. ويحمل قيمة أثرية كبيرة تستحق التسجيل ضمن قائمة التراث المعماري المصري. ورغم محاولات بحثية ودراسات ترميم أولية، لم يتم تنفيذ مشروع ترميم علمي يحافظ على القصر، ما يعرضه لمخاطر الإهمال والتدهور.

شهادات من الجيران: القصر ما زال يلفت الأنظار

يقول الحاج عماد عباس أحد سكان شارع الجيش: “نحن نفتخر أن القصر هنا، الناس بتيجي من بره تتفرج عليه وتصوره. وبالرغم من مرور قرابة 100 سنة على بنائه. فالقصر ما يزال قوي وهيبته باقية، وكأنه بيتكلم عن تاريخ السويس بصوت الحجر والزخرفة”.

ويبقى قصر شحاتة سليم باشا أكثر من مجرد مبنى أثري، إنه شهادة حية على حقبة ذهبية من تاريخ مدينة السويس. حيث كانت العمارة وسيلة للتعبير عن الهوية والانتماء والحب للمكان. اليوم، تحتاج هذه التحفة المعمارية إلى عناية عاجلة، وترميم علمي يضمن بقاءها للأجيال القادمة. ويحولها إلى مزار ثقافي وسياحي يعيد للسويس مكانتها بين مدن التراث المصري.

تحفة معمارية فريدة في قلب السويس

يقع القصر المملوك حاليا لشركة “بترولية” بمدينة الغريب بمحافظة السويس. ويعد من أروع المعالم المعمارية التي ما زالت تحتفظ بجمالها وروعتها رغم مرور أكثر من قرن على إنشائه.

وقد انتقلت ملكية القصر إلى شركة شل منذ سنوات، ليبقى قائمًا كأحد الشواهد على الطراز الأوروبي في عمارة القصور المصرية خلال العصر الحديث. دون أن يتم استغلاله سياحيًا أو ثقافيًا بالشكل اللائق بمكانته.

ورغم مرور ما يقرب من 123 عامًا على تشييد القصر، إلا أنه لم يسجّل حتى الآن ضمن عداد الآثار الإسلامية والقبطية. بالرغم من احتفاظه بحالته الإنشائية الأصلية وعناصره الفنية والمعمارية بشكل مدهش. وهذا التجاهل الإداري يطرح تساؤلات حول مصير هذا المبنى الذي يمثل قطعة نادرة من التاريخ، ويظهر قدرة فنية فائقة في تصميمه وتنفيذه.

من ينقذ القصر؟

يتميز القصر بزخارفه وتفاصيله المعمارية الدقيقة ذات الطابع الأوروبي. مثل الأعمدة الأيونية والفرنتونات، وزخارف الدرع والنوايا والأسنان، إلى جانب زخرفة “البيضة والسهم” الإغريقية، التي تعبر بشكل رمزي عن تعاقب الحياة والموت. كما يلفت الأنظار وجود مجسمات لطائر الصقر ناشرًا جناحيه أعلى نوافذ الطابق الأرضي. في مشهد يعكس القوة والحكمة في الثقافة المعمارية الرمزية.

وطالب عدد من المهتمين بالتراث، في العديد من الندوات في مدينة السويس مؤخرا، بضرورة إعادة توظيف القصر من خلال مشروع متكامل لإحيائه سياحيًا وثقافيًا، ليصبح أحد أبرز المعالم الجاذبة بمدينة السويس. ويأمل أبناء المدينة في أن يتم إدراجه ضمن سجل الآثار قريبًا، حفاظًا عليه من الإهمال. وللاستفادة من قيمته التراثية في تنشيط الحركة السياحية داخليًا وخارجيًا.

اقرأ أيضا:

«فرقة السويس للآلات الشعبية».. حراس تراث السمسمية يغنون للأمل 

موائد البحر وسر الملوحة.. حكايات الصيف مع الأسماك في تراث السويس

«يوم رجع الوطن لأهله».. حكاية الجلاء يرويها شاهد من قلب مدن القناة

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.