أسيوط خارج خريطة التنسيق الحضاري.. لجنة على الورق ومدينة تتشوّه
في محافظة بحجم وتاريخ أسيوط، يطرح غياب مكتب فعال للتنسيق الحضاري تساؤلات كبرى، خاصة في ظل توجيهات رئاسية واضحة بضرورة تشكيل لجان للهوية البصرية في جميع المحافظات حفاظا على الشكل العمراني والخصوصية الثقافية. ورغم الإعلان عن تشكيل لجنة التنسيق الحضاري بأسيوط بالتعاون بين المحافظة والجامعة، فإنها لم تمارس أي دور فعلي على أرض الواقع، واختفى حضورها دون تفسير، بينما استمرت مظاهر التشوه العمراني في التفاقم بمختلف أنحاء المحافظة.
لجنة وُلدت مكتملة ثم جُمدت
بحسب ما جرى الإعلان عنه رسميا في وسائل الإعلام والمواقع المختلفة سابقا. تم تشكيل لجنة الهوية البصرية والتنسيق الحضاري بأسيوط، بعضوية نخبة من الأكاديميين والمتخصصين في العمارة والفنون والتخطيط العمراني، وذلك في عهد المحافظ السابق. وكان الهدف منها وضع رؤية حضارية شاملة لتطوير الميادين العامة والحفاظ على الهوية البصرية للمدينة. إلى جانب وضع ضوابط واضحة للإعلانات والألوان والعناصر العمرانية، وفقا لما أكده الدكتور وجدي نخلة، عميد كلية التربية النوعية الأسبق وأحد أعضاء اللجنة، خلال حديثه لـ«باب مصر» لتوضيح حقيقة الأمر.
حماس واصطدام بالصمت
يقول الدكتور وجدي نخلة: “بالفعل، جرى تنسيق وتشكيل اللجنة من قبل أعضاء من كليات التربية النوعية، والفنون الجميلة، والهندسة، مع محافظ أسيوط الأسبق جمال نور الدين. لإعداد أدلة استرشادية للهوية البصرية بما يتناسب مع القيم الثقافية والتاريخية للمحافظة. والعمل على إضفاء هوية بصرية مميزة لها. وكان لدينا حماس كبير لتطوير ميادين أسيوط وتحويلها إلى ميادين تليق بمحافظة كبيرة في قلب مصر”.
وتابع: “بعد مغادرة المحافظ الأسبق، لا نعلم نحن ولا باقي أعضاء اللجنة ما الذي حدث. فلم يستدعنا أحد لبدء العمل الفعلي، ولم تُعقد أي اجتماعات، ولم نتلق أي تكليف رسمي منذ ذلك الحين وحتى الآن”. وأشار إلى أن العمل كان من المفترض أن يتم في إطار تكاملي بين الهوية البصرية والتنسيق الحضاري. بما يضمن عدم اتخاذ قرارات دون الرجوع إلى المتخصصين.

رمز يُهدم وغياب للمساءلة
ضرب الدكتور وجدي نخلة مثالًا واضحًا على غياب التنسيق الحضاري بما حدث في ميدان الحمامة، قائلًا:”تفاجأنا جميعا بهدم ميدان الحمامة دون سبب واضح. رغم أنه كان من الممكن نقله إلى مكان آخر إذا كانت هناك مشكلة في موقعه بشارع الهلالي، بدلًا من إزالته تمامًا”.
وأوضح أن اللجنة كان من الممكن أن يكون لها دور كبير في تنظيم ميادين أسيوط، خاصة أن أعضاءها من المختصين. ومنهم الدكتور خالد صلاح، عميد كلية الفنون الجميلة سابقًا وعميد كلية الهندسة حاليًا، إضافة إلى الدكتور محمود عبدالعليم، ومحمد عدوي، ممثلا عن البيئة. وأضاف: “تم بالفعل وضع شعار “لوجو” وعرضه. وانتظرنا طويلا تفعيل أعمال اللجنة على أرض الواقع لخدمة بلدنا ومحافظتنا. لكننا صدمنا بأن اللجنة موجودة على الورق فقط، ولم تفعل رغم مرور سنوات على تشكيلها”.
الأكشاك العشوائية.. تشوه بصري وشلل مروري
لم يقتصر غياب التنسيق الحضاري علي الميادين فقط. بل امتد إلى الانتشار المتزايد للأكشاك العشوائية في عدد من المواقع الحيوية بأسيوط، دون مراعاة لأي اعتبارات تخطيطية أو جمالية. ما أسهم في تشويه المشهد الحضري وإعاقة الحركة المرورية.
يقول محمد يحيى، 48 عاما، موظف بالتربية والتعليم: “أسيوط بقت مليانة أكشاك معمولة بشكل عشوائي في أماكن حيوية. الكشك مش بس بياخد مكانه، ده بيتعدى علي مساحات الشارع اللي حواليه ببضائع وكراسي وحواجز. وده بيعوق حركة المارة والعربيات”.
ويضيف: “الشوارع اتشوهت، والمدينة بقت شكلها أقرب لمنطقة عشوائية، خصوصًا في الفترة الأخيرة. مفيش تنظيم، ولا شكل موحد، ولا حد بيحاسب على اللي بيحصل”. ويرى أن غياب مكتب التنسيق الحضاري حرم المدينة من جهة فنية قادرة على تنظيم أماكن الأكشاك، وتحديد مساحتها، ووضع تصميمات موحدة لها. بما يحقق التوازن بين البعد الاجتماعي والحق في مدينة منظمة.

مدينة بلا ملامح
في جولة ميدانية لـ«باب مصر» في شوارع وميادين أسيوط، عبر مواطنون عن شعورهم بفقدان المحافظة لهويتها البصرية. يقول أحمد سيد، 50 عامًا، موظف بقطاع الثقافة: “كل فترة نلاقي ميدان اتشال أو اتغير شكله من غير ما نفهم ليه. مفيش رؤية واضحة ولا تنسيق، غير كمان هدم بيوت ذات طابع مميز في قلب أسيوط دون رادع”.
وأضاف أن أسيوط مدينة كبيرة، لكن شكلها الحالي لا يليق بها، بدءا من الإعلانات والألوان وصولا إلى الأكشاك. كما أشار إلى هدم العديد من المباني ذات الطابع المميز. وكان من أشهرها مسجد اليوسفي، الذي شكل صدمة للجميع، متسائلا: “إزاي يتم هدم مسجد تاريخي قائم منذ 400 سنة؟”.
وتابع: “علامات استفهام كبيرة تدور في الشارع الأسيوطي. هناك دول تبحث عن أي أثر لها، ونحن نهدم مباني شاهدة على حقب تاريخية لن تعوض. قصر ألكسان، وقصر أبو ودن الذي ينتظر دوره. وقصر ميخائيل لوقا الزق، الذي تم شطبه من الآثار عام 2021 تمهيدًا لهدمه، وقصر بشارة باشا، الذي أزاحته الجرافات. وكان من أجمل القصور التراثية في قلب أسيوط. وسينما رينيسانس أسيوط، والآن تقام أبراج سكنية مكانها. إنه تزيف مستمر لتراث وتاريخ أسيوط، وعشوائية وفوضى في قلب مدينة عريقة”.
بين التوجيهات الرئاسية والواقع المحلي
تقول أسماء علي، 42 عامًا، موظفة: “في الوقت الذي نجحت فيه محافظات أخرى في تفعيل مكاتب التنسيق الحضاري، ووضع أدلة إرشادية واضحة للشكل العمراني. لا تزال أسيوط تفتقد كيانًا مماثلًا. رغم الإعلان الرسمي السابق عن لجنة مكتملة التخصصات والخبرات، وتحت إشراف مباشر من وزارة التنمية المحلية”.
وتتساءل: لماذا لم تفعل اللجنة بعد تغيير القيادات التنفيذية؟، هل تم تجميد لجنة الهوية البصرية والتنسيق الحضاري أم جرى تجاهلها دون قرار واضح؟ ومن يراجع القرارات العمرانية الكبرى داخل المدينة؟ ولماذا لم تستثمر خبرات أكاديمية كانت جاهزة للعمل؟

ميدان الحمامة.. كان رمزا للسلام
أكد الدكتور منصور المنسي، أستاذ النحت وعميد كليتي الفنون الجميلة والتربية النوعية الأسبق، أن تمثال الحمامة الذي جرى هدمه كان يحمل مضمونًا فكريًا وفلسفيًا يرمز إلى السلام. ومستلهمًا من تاريخ العائلة المقدسة في أسيوط. وأوضح أنه خلال تصميم التمثال جرت مراعاة الموقع وحركة المرور بشارع الهلالي. نافيا أن يكون التمثال عائقا مروريا كما تردد على لسان بعض المسؤولين.
وتساءل “المنسي” عن الجهة المسؤولة عن قرار الهدم دون الرجوع إلى المتخصصين. وعن غياب اللجان الفنية من كليتي الفنون الجميلة والهندسة، في ظل الحديث عن هوية بصرية معتمدة للمحافظة.
ووصف المنسي في حديثه لـ«باب مصر»، الواقعة بأنها إساءة للفن والثقافة. خاصة في وقت تحتفي فيه مصر بإرثها الحضاري وقوتها الناعمة أمام العالم. مشيرًا إلى أثر ذلك السلبي على طلاب الفنون وجمهور الثقافة في الصعيد، مقابل غضب شعبي عكس ارتباط أهالي أسيوط بالرموز الفنية في ميادينهم. وأضاف: “وبصفتي فنانا تشكيليا، ولي أعمال في ميادين مدينة أسيوط. فأنا تحت أمر محافظة وجامعتها في أي تكليف يسهم في إعادة الهوية البصرية للمحافظة”.
عشوائية بلا رؤية
من جانبها، ترى الدكتورة صفاء كامل، مدير قصر ثقافة أسيوط الأسبق، أن الهوية البصرية لشوارع أسيوط تعاني من العشوائية. رغم محاولات المحافظة تحسين بعض الميادين. وأكدت ضرورة تطوير المداخل والقناطر التي لا تتسم بأي قدر من الجمال. مشددة على أهمية تغيير ذلك من خلال إضافة تماثيل ونوافير تتناسب مع الهوية البصرية للمدينة. مع مراعاة الحفاظ على تلك الأعمال الفنية باستخدام خامات مناسبة تحترم الرؤية الجمالية وتمنع تشويهها.
الصمت الرسمي المطبق
يقول أحمد مصطفى، مدير المكتب الفني للإدارة المركزية لإعلام شمال ووسط الصعيد، إنه لا عجب أن تنتشر التكهنات والأقاويل عن وجود “مافيا” للتربح تمتلك قدرات هائلة على تحويل التاريخ والفن والجمال إلى أنقاض. لتحل محلها أبراج سكنية تدر المليارات، في ظل جنون أسعار العقارات. حيث تجاوز سعر الشقة الواحدة في وسط المدينة عشرة ملايين جنيه، ليصبح الحجر الأثري مجرد عائق أمام جشع لا يعرف حدودًا.
وأضاف أن الأمر لا يتوقف عند جريمة الهدم ذاتها، بل يتجاوزها إلى ما هو أخطر، وهو الصمت الرسمي المطبق. فالحكومات المتعاقبة والمجالس البرلمانية، ورغم تكرار مشاهد الإزالة، لو أدركت خطورة هذا الهدم على الهوية والانتماء والثقافة والجمال، لتحركت وعالجت مشكلات البيروقراطية. وضعف الأجهزة، وعوار القوانين، ووضعت لوائح رادعة، وابتكرت حوافز حقيقية للحفاظ على هذا الإرث. ويرى أن عدم التدخل يشبه اعترافا ضمنيا بأن قصور التاريخ وسينمات الذاكرة لا تساوي شيئا أمام تضخم ثروات قلة من المنتفعين.
خسارة الهوية وهدم المعايير الجمالية
استطرد “مصطفى” حديثه، قائلا إن التكلفة الحقيقية تتجاوز مجرد فقدان الحجارة، فهنا خسارة للهوية. حيث يمحى تاريخ وخصوصية كانا يغذيان الانتماء الوطني والجغرافي، وخسارة للجمال بهدم المعايير الجمالية والمعمارية التي ترفع من روح المواطن وتثقل ذوقه.
كما أشار إلى الخسارة الاقتصادية المتمثلة في فقدان جاذبية المدن وإهدار مليارات الجنيهات عبر تدمير مقومات السياحة. فضلا عن خسائر صحية واقتصادية واجتماعية. إذ ندفع ثمنا باهظا في المستشفيات لعلاج أمراض التلوث والزحام والضجيج. مع ما يصاحب ذلك من تراجع الإنتاجية، وإضعاف روح الإبداع في مجتمع محروم من جمال محيطه وهدوء نفسه.
ديوان محافظة أسيوط
تواصل «باب مصر» مع عدد من المسؤولين بمكتب محافظ أسيوط، للاستفسار عن أسباب عدم قيام لجنة الهوية البصرية والتنسيق الحضاري بمهامها داخل المحافظة، إلا أنه لم يتم أي رد حتى كتابة هذه السطور.
اقرأ أيضا:
غرفة صغيرة وأحلام كبيرة.. تجربة «شيماء عز العرب» في صناعة الشموع
الأغاني الشعبية: رحلة اندثار تراث الأجداد خلف ضوضاء الدي جي
«مسجد اليوسفي» في أسيوط.. أربعة قرون من التاريخ انتهت تحت الجرافات




