أبناء طه حسين

ذات يوم، راجت صيحة بعض الأدباء الشبان: «نحن جيل بلا أستاذ»، تعبيرا عن التمرد والخروج عن المألوف، غير أن تلك الصرخة تبددت في الخلاء، حيث خلت من أي أصداء واسعة المدى. فكافة العصور والثقافات أدركت علاقة المعلم بالمريد والمتلقي، فالصلة المعقودة ليست التبعية والخضوع، ولكنها صلة الندية والحوار.
هكذا كان عصر العميد: تلاميذ صاروا صحبة في الجامعة، وآخرون مجاورون خارج الجامعة. ففي كتاب «ذكرى طه حسين» لسهير القلماوي، تروي: «واستعير عنوان هذا الكتاب منك «ذكرى أبي العلاء»، فكم أخذت عنك في حياتك، وكم سأظل آخذ عنك ما حييت، فما أنا إلا كتاب من كتبك».
وفي مطالعتها لكتاب «أحلام شهرزاد» استعادت المقدمة التي يعبر فيها عن إيمانه بحق الشعب في الثقافة الرفيعة، وأن القراءة الجادة يجب أن تكون زاداً متاحاً للناس أجمعين، حيث كان إهداء كتاب «شهرزاد» ممهوراً بـ«إلى التي وصلت بيني وبين شهرزاد أسباب الألفة». ثم قالت: “وأنه هو الذي وصل بيني وبين الفكر والأدب أسباب الألفة”. والذي رآه في الثقافة هو الذي رآه في شأن التعليم وحق الإنسان فيه، الذي مثله بحقه في الماء والهواء.
***
وقد ربط بين مفهوم الديمقراطية والحرية ومفهوم التعليم ربطاً وثيقاً لا انفكاك بينهما في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر». فالحل في مشكلة البطالة هو في إصلاح النظام الاجتماعي نفسه وجعله قادراً على أن يتيح لأبناء الوطن جميعاً أن يعيشوا على أرض الوطن، وأن يعيشوا من كدهم وجدهم وعملهم.
وتورد سهير القلماوي خصائص فنه وأسلوبه، غير أن «خصيصة هامة تعنيني هنا هي طريقة نقله للصور المرئية وهو كفيف». فالأمر لدى طه حسين غير مختلف عن الصور لدى أبي العلاء، إن صور أبي العلاء المعري مستمدة من ذكريات الطفولة القصيرة، وقراءات لا حصر لها، وخبرة أعوام قليلة مع قوم ليس بينهم وبينه ألفه. وكذلك طه حسين يستمد صوره أيضاً من ذكريات الطفولة، وما حدثه عنها إخوته ووصفها له، فضلاً عن قراءات عديدة أيضاً.
وتروي سهير القلماوي أنها كانت تتأمل الفعل “نشوفك” في جملته الشهيرة: “خلينا نشوفك”، التي تحمل شيئاً من الرجاء. فتقول:”أقف عنده متسائلة: أكان يمكن أن يختار فعلاً آخر يناسب حالته؟ وأخذت ألاحظ استعمالاته للكلمات الدالة على الرؤية البصيرة”، بل أنه يذكر ألواناً للأشياء وأحجاماً عرفها بالسماع، كأن يصف ديكور مسرحية.
***
وفي «الأيام» فصول رائعة تصف ما كان يشعر بسبب هذه الآفة: كيف عرف أنه أعمى؟ وكيف أحس هذا؟ فيقول: “أحس أن أمه تأذن لإخوته ولأخواته في أشياء تحظرها عليه، وكان ذلك يحفظه”، ولكن لم تلبث هذه الحفيظة أن استحالت إلى حزن صامت عميق، ذلك أنه سمع إخوته يصفون ما لا علم به، فعلم أنهم يرون وهو لا يرى.
ويصف لنا كيف كان يحس الزمن، فنشعر من الوصف أنه لا يكاد يرى شيئاً. يقول: “لا يذكر لهذا اليوم اسماً، ولا يستطع أن يضعه حيث وضعه الله من الشهر والسنة، وإنما ذلك تقريباً، وأكبر ظنه أن هذا الوقت، كان يقع في فجره أو عشاءه، يرجح ذلك لأنه يذكر أن وجهه تلقى في ذلك الوقت هواء فيه، شيء من البرد الذي لم تذهب به حرارة الشمس….”.
ومن شدة ما يتصور كل شيء من خلال الصوت نراه يتصور صوتاً لأبي العلاء الذي أثر في حياته الأثر الأقوى بعد صوت شهرزاد العذب. فيقول في صوت أبي العلاء: “لم يكن (أبو العلاء) عذب الصوت في آذان الذين يسمعون له دون أن يطيلوا الاستماع إليه، ولم يكن محبب النفس لي الذين يتصلون به…”.
***
ويعد كتاب «الفتنة الكبرى»، أول كتاب له يؤرخ لأحداث الإسلام بفكرة التاريخ لا الأدب: “ولكن هذا النحو الذي ظهر عليه الكتاب ليس تاريخاً خالصاً، ولا أدباً خالصاً، ولا هو بالطبع فلسفة خالصة، ولكن فيه من كل هذا أطراف”. وإن رغبة طه حسين في أن نحس التاريخ أكبر كثيراً من رغبته في أن نعرف من التاريخ معلومات بعينها أو نرجح بين رأي وآخر في الفتن الكبرى التي أثارت الخلافات حولها حروباً طاحنة.
ومحاولته السابقة على الفتنة الكبرى في التاريخ الإسلامي، كتاب «على هامش السيرة»، كانت وما زالت تحمل بصدق هذه الرغبة في عنفوانها: رغبة أن نحس السيرة النبوية الشريفة كما أحسها هو في قراءاته لها. وكان التاريخ لدى طه حسين لحظات حية ومواقف موحية. وأحداثه الكبرى ليست وقائع فحسب، وإنما هي حشد من العواطف وفوران من الأحاسيس وبراكين من الفكر ومنجم من ردود الفعل الإنسانية.
***
وفي تأمل فكرة طه حسين عن الفن عامة، فهو يراه يقيد الفنان، ولكنها قيود ما يكاد يألفها حتى ينطلق حراً. يقول: “إن الفن الرفيع قيد حر إن صح التعبير، فهو يفرض على صاحبه أثقالاً وأغلالاً لا يستطيع أن يخلص منها دون أن يفسد منه إفساداً أو ينحرف به عن طريقه المستقيمة المقسومة له، ولكنه مع ذلك لا يكاد ينهض بأثقال هذا الفن وأعبائه، إن كان ميسراً له غير متكلف فيه، حتى تستقيم له الأمور وتمتد له الأسباب وترخي له الأعنة، وإذا هو يمضي بفنه حيث يشاء”.
وفي كتابه “المعذبون في الأرض”، الذي يمثل ثورة على الأوضاع الاجتماعية السائدة، وخاصة حالة التخمة التي تعم بها الأثرياء والأغنياء، وكان وباء الكوليرا قد تفشى في مصر وعانى منه الفقراء خاصة، فكانت مناسبة مواتية لسخريته اللاذعة من الوضع كله.
ويقدم كتاب “المعذبون في الأرض” إلى الذين يحرقهم الشوق إلى العدل، وإلى الذين يؤرقهم الخوف من العدل حينا، وحينا آخر، وإلى الذين يجدون ما لا ينفقون، وإلى الذين لا يجدون ما ينفقون. “وليس في هذا الكتاب تحريض على النظام الاجتماعي ينكره القانون، وليس إغراء بتلك المبادئ الهدامة كما كان يقال في ذلك الوقت”. فقد كان أكثر إدراكاً للحقائق، وهي أن النظام كله يجب أن يتغير.
***
وكتابه “الأيام” مشحون بطاقات روائية ضخمة، وله أن يكون رواية لو أراد، بميزة وحدة الموقف، فكله كفاح ضد قوى القهر والكبت والحرمان. ولكن طه حسين يريد للأيام شيئاً آخر، يريدها مذكرات أو شبه مذكرات فيها عفوية الصدق وتشويق التتبع للأحداث.
ويذكر “سامي الكيالي” في كتابه “مع طه حسين” أن صلته بطه حسين ترجع إلى ما يقرب من ثلاثين سنة: “كنت في بدء حياتي الأدبية أقرأ كل ما يقع تحت يدي، وقد انجذبت منذ نشأتي الأولى إلى أدباء مصر… قرأت لشوقي وحافظ والمنفلوطي وقاسم أمين وفريد وجدي وفتحي زغلول. ووقتها وقع بيدي كتاب “ذكرى أبي العلاء” وأنا مريض، فقرأت باحثاً ينفذ إلى صميم أبي العلاء، فما كدت افرغ من تلاوته حتى أحببت الرجل، وأخذت أتابعه في جميع ما كتبه.
ورجعت إلى مجلدات “المقتبس” التي كان يصدرها الباحث محمد كرد علي، فعثرت على مقالات للشيخ طه الأزهري فقرأتها، ولم تكن ذات بال، على أن كتابة “في ذكرى أبي العلاء” فقد فتح أمامي نوافذ تطل على الحياة العقلية عند العرب. كان النهج جديداً علي، حيث انتهيت بعد أن قرأت هذا الكتاب إلى أن الدكتور طه حسين هو أول من وضع أسس البحث العلمي في الدراسات الأدبية”.
***
وقد تلقى الناس هذا الكتاب بكثير من الاهتمام، لأنه لون جديد من الدراسة الأدبية. وكانت المفاهيم آنئذ لا تهضم هذا اللون من الدراسات والبحوث الجديدة، فما كان من أنصاف الأدباء والمتزمتين وأصحاب العقول المتحجرة إلا أن هاجموه بعنف، وأخذوا يحبرون مقالات السب والشتم. وقد أحب طه حسين أن يقدم إلى مصر ثمرة جديدة من ثمرات جهده، فكان ابن خلدون أبرز الشخصيات الفذة في تاريخ العرب الفكري. فكلف في باريس، يدرس حياته وآراءه ونزعاته، حيث كتب رسالته الجامعية “فلسفة ابن خلدون الاجتماعية”. وعندما عاد إلى مصر بدأ يدرس التاريخ اليوناني القديم، حتى رضي قوم وسخط آخرون.
ورأى طه حسين أنه “ما ينبغي لأحد أن ينسى ما كان للحضارة اليونانية من التأثير الظاهر في حضارة العالم كله، ومنها البلاد الإسلامية، ولم يكن هذا التأثير مقصوراً على الحياة العقلية والأدبية، بل تناول الحياة السياسية”.
فطه حسين، مثال للمفكر الحر، والأديب الذي يريد أن يرقى بالأدب العربي إلى المكانة التي تحتلها آداب الأمم الحية. فهو صاحب مدرسة ومنهج ومدرسته تقوم على الهدم والبناء عمدها النزعة التجديدية.
***
وفي قضية الشعر الحديث يرى طه حسين أن: “…. من الشباب طائفة يرون لأنفسهم الحق في أن ينحرفوا عن مناهج الشعر القديم، وعن أوزانه وقوافيه خاصة، ولست أجادلهم فيه، فأوزان الشعر القديم وقوافيه لم تنزل من السماء، وليس ما يمنع الناس أن ينحرفوا عنها انحرافاً قليلاً أو كثيراً أو كاملاً. ولكن للشعر، قديماً كان أو حديثاً، أسس يجب أن تراعى، وخصائص يجب أن تتحقق. ثم يزعم لنا أنه قد أنشأ شعراً حديثاً… فالشعر يجب أن يبهر النفوس والأذواق بما ينشئ فيه الخيال من الصور، ويجب أن يسحر الآذان والنفوس معاً… هذا الابتكار ليس شيئاً يمتاز به شعراء العرب المعاصرون عن الأمم الأخرى”.
وما أكثر تلاميذه في مصر والشرق العربي وفي عواصم الغرب والشرق… وعن الأثر الذي تركه في نفوس تلاميذه يقول رشدي صالح: “إن تلاميذ أدبك هم أحرص الناس على رواء اللغة الشريفة واستمرار مجدها، وأكثرهم إنتاجاً في أدبها وعلومها، وأوفرهم درساً لها وبحثاً في أسرارها”.
***
وتقول سهير القلماوي: “لقد علمنا طه حسين كثيراً غير العلم المدون في الكتب. علمنا كيف نعشق الآفاق الرحبة، وكيف نفتح أذهاننا لكل جديد، ولا نحكم على شيء إلا بعد أن نعرفه… إن منهجه الذي يوصف بأنه منهج ديكارتي (نسبة إلى ديكارت الذي شغف طه حسين بفلسفته وتأثر بها دون شك) هو المنهج الذي صبغ طريقة تفكيرنا نحن أيضاً زمناً طويلاً تأثراً به”. وتردف: “أنه مشغوف بالتجديد، مناصر للحياة المتجددة، يكره الركود والجمود وتحجر الفكر”.
ويقول شوقي ضيف: “… أما تلاميذه الذين كانوا يتلقون عنه محاضراته فقد ملأ قلوبهم فتنة بالبحث فيه بحثاً علمياً فتياً دقيقاً، وسرعان ما أخذوا يدرسون أنحاء حياتنا الأدبية القديمة والحديثة درساً قوياً خصباً. ولم تمض سنوات طويلة حتى وضعت مذاهب أسلافنا الفنية في الشعر والنثر موضع البحث، وتوالت الدراسات في أدبنا العربي القديم والمعاصر وفنونه المختلفة..”. وأن كل الجهود الأدبية والعلمية هي ثمرة طبيعية لأصول البحث الأدبي التي وطدها طه حسين.
***
“لقد استطاع طه حسين أن يبث في حياتنا العقلية والأدبية، بالفكر المستقل، معنى الحرية بأقوى ما تدل عليه، ويبعث فينا نزعة التجديد بأكرم ما تشير إليه، وبالروح البصيرة مضى طه حسين يرسم لنفسه سلوكاً إنسانياً رفيقاً، لم يحد عنه حين جرى قلمه بتصوير الحياة والأحياء، وبالتعبير عن الوجدان الاجتماعي في أصالة وصدق”.
ويردف سامي الكيالي قائلاً: “أما صبغة الفنان في شخصية طه حسين فهي ميسم يطبع أعماله الأدبية جميعاً، حتى ما كان منها خالصاً للبحث والدرس. مما يفتقر إلى التجرد للتأمل والتفكير والاستنتاج”. وأعني بتلك الصبغة فيه: ألا يتناول موضوعاً ولا يرسم صورة إلا كان فيما يتناول وما يرسم فناناً أصيلاً، يواتيه الخلق والابتكار ولا يكاد يخطئه أو يخلفه”.