في محبة المهرجانات
صحيح أن الأفلام باتت متوفرة في كل مكان، على الفضائيات والمنصات والانترنت ومواقع القرصنة مثل “التورنت” و”ايجيبيست” وغيرها، لكن لم يزل للعروض العامة وللمهرجانات جاذبيتها وتأثيرها المختلف.
الفنون الأدائية
لم تصنع الفنون للاستهلاك الفردي في الغرف المغلقة، أو على الأقل هكذا بدأت وانتشرت، من أجل الاستهلاك الجماعي ولخدمة الجماعة في المقام الأول. ولا يمكن تصور بناء معبد ونحت تماثيل ورسم صور وتمثيل مسرحية وغناء نشيد والقاء قصيدة إلا مع وجود الجمهور كضلع أساسي مكمل لهذه الفنون.
مع حلول عصر الصناعة وصعود الفردية وتغير أنماط الحياة الاجتماعية في القرن الثامن عشر ولد الأدب الروائي والقصصي الذي يمكن استهلاكه بشكل فردي. ومع تطور التكنولوجيا وظهور وسائط جديدة مثل الاسطوانات المسجلة والتليفزيون والفيديو، ثم الطفرة الهائلة للثورة الرقمية في نهاية القرن العشرين وما بعده، أصبح الاستهلاك الفردي للفنون أسهل وأرخص وأكثر امتاعا للبعض. ومع نشأة أجيال لا تفارق عيناها وأذناها الشاشات الصغيرة أصبح الاستهلاك الفردي للفنون هو القاعدة والاستهلاك الجماعي هو الاستثناء!
ولكن بالرغم من أن الاستماع إلى مقطوعة موسيقية أو قراءة كتاب بمفردك قد يكون أكثر متعة وفائدة، إلا أن الأمر يختلف في الغناء والمسرح والرقص. وحتى الآن ليس هناك وسيلة بديلة يمكن أن تعوض حالة التلقي الجماعي لهذه الفنون التي يطلق عليها “الفنون الأدائية”.
النحت في الزمن
تقع السينما في منطقة وسيطة بين فنون الفكر وفنون الأداء، مثلما تقع في منطقة وسيطة بين الفنون المكانية والفنون الزمنية.
هناك فنون تحدث في المكان مثل النحت والرسم والأدب. في معارض الفن التشكيلي والمتاحف مثلا، يمكنك أن تتوقف لتأخذ استراحة زمنية لثوان أو دقائق أو ساعات، ثم تعاود الاستمتاع بتأمل لوحة، أو بقراءة رواية.
هناك فنون أخرى تحدث في الزمن، مثل الموسيقى التي تفقد الكثير من متعتها عندما تستمع إليها مقطعة، وفي المسرح لا توجد وسيلة لايقاف العرض والعودة إليه من جديد.
تجمع السينما فنون المكان والزمن في نسيج واحد، إذ يوجد فيها الرسم والنحت والأدب وهذه تجري في زمن محدد مثل الموسيقى لها ايقاعها وتأثيرها الزمني الذي يتأثر سلبيا بشدة حين توقف عرض الفيلم لتعود إليه بعد فترة، وأنا شخصيا أنزعج من الاضطرار أحيانا إلى التوقف عن مشاهدة فيلم ما ثم العودة إليه، وذلك بسبب انتشار عادات المشاهدة المنزلية على وسائط يمكن التحكم فيها (حتى بعض الفضائيات أصبحت توفر هذه الامكانية الآن!).
من أجمل عناوين الكتب التي تصف فن السينما بدقة كتاب المخرج الروسي أندرية تاركوفسكي المعنون بـ”النحت في الزمن”، فالفيلم نوع من الجمال الثابت مثل النحت والعمارة والرسم، الذي يلتف بجمال زمني يتمثل في الموسيقى والرقص والايقاع والحركة والتمثيل.
لا يوجد ما يضاهي مشاهدة فيلم داخل قاعة مغلقة وسط جمهور غفير في زمن محدد، تطفأ فيه الأضواء وتغلق الهواتف المحمولة ويعم الصمت الشامل المقدس في حضرة العمل الفني. وليس هناك أكثر ازعاجا من مشاهدة فيلم في قاعة يتسرب إليها الضوء لا يكف فيها المشاهدون عن الثرثرة ولا تكف هواتفهم عن الرنين كما يحدث أحيانا في بلاد الواق واق وبعض أماكن العروض في مصر (وبالتأكيد في بلاد أخرى لا يعنينا الحديث عنها).
سجاجيد حمراء
لا يوجد ما يضاهي مشاهدة الأفلام في المهرجانات السينمائية. خاصة إذا كنت بصحبة جمهور مناسب متحضر يفهم في فن السينما. لذلك كله. رغم شهور الحظر الكوروني وارتفاع أسعار التذاكر وصعوبة الحركة في مدينة مزدحمة وصعوبة توفير وتوفيق الوقت والمواعيد أحيانا. لم يزل جمهور السينما الفنية في مصر موجودا ومتحمسا ومستعدا للاقبال على المهرجانات وأفلامها.
مع ذلك ينحصر هذا الجمهور تقريبا في المتخصصين وبعض الشباب المثقف، وهناك صعوبات حتى في الوصول إلى أغلب هذا الجمهور سواء من ناحية الدعاية الانتقائية المتخصصة، وهناك أسعار التذاكر المرتفعة بالنسبة لعدد كبير منهم، مثل مهرجان القاهرة تحديدا، فبقية المهرجانات عروضها مجانية ولكنها فاشلة في الوصول إلى الجمهور المستهدف.
لا يوجد ما يضاهي مشاهدة فيلم في مهرجان وسط رفقاء محبي السينما والفن الرفيع الجاد..لكن هناك الكثير من العقبات التي تحتاج إلى اهتمام يضاهي اهتمامنا بالسجاجيد الحمراء والنجوم والمفرقعات النارية!