عرض كتاب| "الأمومة وأشباحها" لإيمان مرسال
كتب: مارك أمجد
في كتابها “الأمومة وأشباحها”، تفتح إيمان مرسال الباب أمام الأسئلة المخيفة التي تؤرق أي أم، مهما كانت حالتها الاجتماعية والمادية، وليست من الغرابة في شيء حينما نكتشف أن العقل الجمعي لكل تلك الأمهات واحد، من حيث هواجسهن وطموحاتهن وعقد الذنب لديهن تجاه الأبناء.
والكتاب فصوله تأخذ عدة محاور وأشكال، فهي تبدأه مثلا بالتيار الفكري الشمولي عند كل النساء حينما يجتزن مرحلة الحمل والأعراض الجسمانية المرعبة التي تطرأ عليهن وتخطف من بريقهن، وحتى يحملن أخيرا بين أيديهن ثمرة أرحامهن، ثم تعرض نماذج أدبية من الشعر الشامي والأدب الأوروبي، كيف تناولوا الأمومة، وما الذي كتبته الأمهات لأطفالهن في القصائد والروايات، ثم تعرض صورا فوتوغرافية من كتالوجات عالمية تبرز الأطوار التي أخذتها الأمومة على مر العصور، في التخفي والانسحاق والبذل والتضحية والإيروتيكية. لدرجة أنها تتعرض للفترة التي كان يتوجب على الأم فيها حينما ينوون تصوير طفلها في الاستوديو، أن تجلس خلفه متخفية في ستارة أو مقعد، كي تحفظ اتزانه ويظل هو شاعرا بالأمان، فلا يبكي وتفسد عملية التقاط الصورة.
يقولون في كتاب الأمومة وأشباحها: عادة أن كثير من التجارب الإنسانية يمكن أن يعبر عنها الأديب حتى لو لم يجتزها، لكن هذا الكتاب بالذات دحض تلك النظرية وأثبت أن بعض التفاصيل الحميمية الخاصة بالمعاناة لا يمكن أن يصل لتوصيفها سوى من اختبرها واجتازها. زد على ذلك موهبة مرسال الشخصية في التقاط المشاعر وصياغتها في قوالب وتركيبات لفظية تخترق القارئ حتى العظام. ويعد كتابها نموذجا جيدا يضاهي الأطروحات الأجنبية التي اتخذت من الأمومة محورا لها.
المؤلفة من الصفحة الأولى بالكتاب تحاول أن تنتزعك من الوهم القائل بأن الإنجاب ما هو إلا عملية بيولوجية يقوم بها الإنسان لتزجية وقته أو لتخليد اسمه. فخلف هذا الخلود تكمن لعنة نادرا ما يفلت منها الآباء، والذين نجوا عاشوا بقية عمرهم في حيرة إن كان ما أقدموا عليه من تناسل وامتداد في صالحهم حقا، أم أكل من أجسادهم. وكي تضع مرسال حدا لهذه الإشكالية فهي تواجه القارئ بكل المخاوف التي يظن أنه قادر على تنحيتها جانبا وإلقائها في أقرب سلة قمامة. لذلك لا ينصح لأي شخص لا يرغب في مواجهة مخاوفه بقراءة مثل هذا الكتاب.
رغم أن التجربة الكتابية هنا أنثوية بشكل خالص، إلا أنها ثرية وتلمس عقل أي قارئ مهما كانت ثقافته ولغته، وهو على عكس ما ألفناه من التجارب النسوية العربية في الكتابة التي اعتادت أن تتناول منظور واحد محلي لأزمتها، مما يسبب انفصالا عن المادة المكتوبة وأي قارئ لم يختبر تلك التجربة المقصودة. ورغم أن الكاتبة هاجرت البلاد وسافرت لكندا منذ عهد بعيد، إلا أنها قادرة مع ذلك على استعادة المأثورات الثقافية التي أثرت في تربيتها مما يمنح الكتاب جانبا مصريا أصيلا، وهي في الوقت ذاته لم تفلت من يدها مفاتيح القارئ الأجنبي، عبر ما تناولته من مقتبسات وأمثلة من روايات ودوواين وألبومات فوتوغرافية عالمية. لذلك أتخيل أن الأمومة وأشباحها يناسب كل الثقافات واللغات إذا تمت ترجمته، كذلك يمكن أن يقرأه الرجال ويستفيدون منه مثلهم مثل النساء، ويساعد على هضمه عدد صفحاته القليل جدا وسلاسة لغته رغم تعقد أفكاره.
مقطع من الكتاب:
لو كنت أكثر وعيًا وسألني أحدهم عن صورة أمي لكنت أريته هذا الطائر في الكانفاه التي شغلتها بيديها. ليس لحضور أمي في الكانفاه دخل بالتذوق الجمالي، أو ببراعتها. لكن الوخزة التي يصيبني بها هذا الطائر، لم أمر بها أمام صورتها معي في الاستوديو. عيناه دائمًا تنظران إلي كأنهما عيناها.
الطائر الساكن الذي اعتادت أن تجلس أمي لأجله جنب الشباك من أجل إضاءة أفضل، كل غرزة إبرة جرح رمزي في عملية تجسيده، مئات من الجروح كي يكتمل.
عن الأمومة وأشباحها:
الكتاب صادر باللغة العربية في ١٥٠ صفحة من القطع الصغير، مزود بصفحات كاملة للصور الفوتوغرافية التي أتت المؤلفة على ذكرها وسط الفصول. أصدرته مؤسسة مفردات (بروكسل) تحت مسمى مشروع (كيف ت) الأدبي الذي يمكن المؤلفين حول العالم من توصيف تجارب شخصية مروا بها وكيف اجتازوها فعلا. وبالتعاون مع مؤسسة مفردات ساهم المعهد الثقافي الألماني (جوته) في إطلاق الطبعة الأولى من الأمومة وأشباحها عام ٢٠١٧.
2 تعليقات