«شنطة سفر»: حكايات عن الناس والعمران والتقاليد والفنون

هذه الحلقات أرصد فيها مشاهد وصور ومواقف من مدن العالم لكل منها حضارة وتاريخ وجغرافيا وثقافة خاصة. أنقل فيها الخبرات الحياتية والأحاسيس والمشاعر التي وجدتها في نفسي مع زياراتي لتلك المدن. وأوثق معها ومن خلالها انطباعاتي عن السلوك الإنساني ومغامراتي في البحث عن معاني جديدة للحياة. وأحاول الوقوف على نقاط التقاء الحضارات والشعوب والإنسانية. هي شهادة عين على الأماكن والناس والمعالم الأثرية والعمارة والعمران والمظاهر المختلفة من الحياة الاجتماعية. ومنها التنوع المجتمعي والاحتفالات والعادات والتقاليد والملابس والأطعمة والأشربة والفنون وما إلى ذلك.

أهدي هذه الحلقات للقراء في مصر والعالم العربي من مختلف الأعمار والتخصصات والخلفيات الثقافية. وذلك لتنوع موضوعاتها وتعدد مداخل الوصف والسرد والحكي بها. الوصف للأماكن والمباني والعمران والمشاهد الطبيعية ووسائل المواصلات والأجواء العامة والأشخاص وثقافات المأكل والملبس وألوان الفنون المختلفة. والسرد للمواقف المختلفة مع من احتكيت بهم من شخصيات متنوعة وما دار من حوارات وأحداث. أما الحكي على مدار الحلقات فبضمير المتكلم مفردا وباللغة العامية الدارجة.

قبل الحكي

من صغري بسمع حكايات أبويا وأمي عن السفر. بابا كان غاوي باريس ولندن بالذات. وكانوا محطات رئيسية في كل سفرياتهم اللي كانت في أوروبا بوجه عام زي معظم المصريين في السبعينيات. كل مرة كانوا بيسافروا كانوا بيرجعوا يحكوا عن البلاد والناس والأماكن ويفرجونا على الصور. وأنا أعيش بخيالي في كل مدينة زاروها. سافرت في أحلام اليقظة وشفت كل اللي حكولي عنه وقابلت كل الناس اللي قابلوهم. أنكل صلاح النجار اللي كان عايش في باريس وبيعمل الدكتوراه في السربون عن الآثار المصرية القديمة ومراته الفرنسية كاترين. كانوا دايما بيقولوا لي إني لازم أعيش في باريس.

ومن لندن، كانت صور وجوابات صاحبتي سارة فوستر بتوحي لي إني لازم أعيش في لندن. وبعدها جت سارة مصر لمدة سنة تتمرن قبل ما تدخل قسم العمارة في جامعة ليفربول وعاشت معايا في أوضتي ٦ أشهر أو أكتر، وليها فضل تدريبي على المحادثة بالإنجليزية بالرغم من فرق ٩ سنين عمر بيننا. كان عمري وقتها ٨ سنين وهي ١٧. وبعد ما رجعت هي إنجلترا ودخلت الجامعة فضلنا نتراسل سنين. مكانش عندي في السبعينات حكايات كتيرة عن أمريكا، إلا من خلال المسلسلات والأفلام وحكايات خالو طارق اللي هاجر أمريكا واستقر في نيو جرسي.

أما حكايات شرق آسيا فكانت معدومة تقريبا. وكان كل ما أعرفه عن البلاد العربية ماكانش فيه حكايات عن الأماكن وماكانش فيه صور، إنما كان حكايات عن الحر ودرجات الحرارة. لما كان بابا بيسافر الدول العربية للشغل كان يرجع يحكي أن الرطوبة بتعمل شبورة عالنظارة أول ما يطلع من أي مبني، وإن كل المباني مشغلة “المكيف” طول الوقت (مكانش في البيوت المصرية في السبعينات مكيفات إلا نادرا)، وكنا نتنادر بحكاية قلي البيض على كبوت العربية في الكويت تحديدا.

***

كبرت شوية صغيرين وبدأت ماما تسافر في رحلات سنوية مرة كل سنة مع نقابة السينمائيين ومع التليفزيون. كل سنة أتهوس بحكاياتها اللي بترجع تحكيها، وبالهدايا وخاصة المشغولات اليدوية التقليدية الفنية من كل بلد: إسبانيا، اليونان، الهند، الصين، تركيا، سوريا، روسيا، التشيك،… ولما راحت تدرس فترة في باريس ورجعت توريني الصور، كان رد فعلي إني رحت المركز الثقافي الفرنسي لإتقان اللغة وللاستعداد لدراسة العمارة في البوزار بعد ما أدخل الجامعة.

وعدت سنين وسافرت أول مرة لمدة شهر مع بابا، وأكيد كانت الوجهة هي “الباريس- لندن كومبو”. لفيت باريس على رجلي حرفيا وسافرت منها لمقاطعة نورماندي مع كاترين وأخدنا المركب وعدينا المانش ورحنا لندن وشمال لندن عند سارة، ورجعنا فرنسا تاني. الشهر دة خلاني أشوف الدنيا بنظارة تانية خالص وغير لي مفاهيم كتير عن الدنيا والناس والثقافة والفن والعمران. وبعدها بسنين، دخلت الإنترنت حياتنا، وفتحت عليا طاقة القدر. وبالرغم من إني سافرت كام مرة كدة في أوائل الألفية، إلا أن متعتي الحقيقية كانت لما كنت بسافر مع نفسي في الشاشة.

عملت قائمة أمنياتي ولفيت الدنيا “افتراضيا” وأنا قاعدة في البيت. عرفت كتير عن الناس والأماكن والماضي والحاضر. ودة ساعدني جدا في التدريس كمان. وبعد ثورة يناير 2011 كانوا ولادي كبروا شوية وقدرت أسافر أكتر شوية، وبعدها ربنا كرمني بمركز دولي، تطلب حضور اجتماعات دورية في بلاد ومدن ما كنتش مخططة أزورها. وزادت المهام والمؤتمرات والسفر. ثم جاء أوان السفر مع الأولاد بهدف الفسحة والسياحة… كنت حطيت لنفسي خطة طويلة المدى إني ألف العالم واحدة واحدة؛ مش كسائحة مع شركة سياحة، ولا مجرد باحثة بتروح تحضر مؤتمر وترجع، ولكن كرحالة.

***

حطيت قايمة المدن اللي نفسي أشوفها، واللي أقدر أدبر فلوس تقعدني فيها كام يوم، أو أقدر أركب منها قطر لمدينة تانية قريبة في نفس البلد أو بلد مجاورة لها وبدأت مرحلة الـ wanderlust (وندر لاست) والسفر بمجرد شنطة ظهر. سفر صامت، متأمل عن أحوال البلاد والعباد.

وشوية بشوية، بقي عندي طقوس للسفر وتجهيزاته. واستصدار التأشيرة، وحجوزات الطيران، وتجهيز الشنطة. والتخطيط لأماكن الزيارات وحجز “لندن كاب” اللي رقمه على تاريخ عيد ميلادي 19670 أو ليموزين المطار 19970 (قبل الأوبر وقبل ما عمر ابني يضع تقليد التوصيل من وإلى المطار). وبسبب زيادة عدد السفريات للاجتماعات والمؤتمرات كان من الطبيعي أن تكون الشنطة متحضرة دايما من حيث الأساسيات – غيار للنوم وحاجات الحمام (وهنا بتظهر أهمية زجاجات الشامبو والصابون اللي بناخدهم من الفنادق) وأساسيات أخرى على رأسها الشطافة البلاستيك والشمسية (أو المطرية).

بعدها ظهرت الشنط والأكياس الخاصة بتنظيم شنطة السفر بأحجام ومواصفات مختلفة؛ لأدوات الحمام، للغيارات، لتقسيم الهدوم حسب الأيام أو حسب الجو أو حسب المناسبات والفعاليات، وللهدوم اللي محتاجة غسيل وللأحذية، وهكذا. في الأول، كنت بسافر بشنطة كبيرة وجواها شنطة صغيرة فاضية. ساعتها كان اليورو والدولار يسمحوا بالشراء، وشوية بشوية الشنطة أخدت تصغر لحد مرحلة السفر الخفافي بمجرد شنطة صغيرة وصلت لشنطة ظهر.

***

أما عن حكايات ومغامرات المطارات، فبالفعل فيه مطارات بيني وبينها ألفة من كتر ما بروحها زي مطار روما “فيومتشينو” ومطار إسطنبول ” أتاتورك” القديم ومطار فيينا، أو مطارات بنزل فيها ترانزيتات كتير، ومطارات تانية قضيت فيها ساعات طويلة أو بيت فيها زي مطار دبي، ومطار بانكوك، وأصبح لي كافيتريات ومناطق جلوس محددة فيها. وفيه مطارات كرهتها بسبب وقت مش حلو قضيته فيهم زي مطار بكين، ومطارات بحبها بسبب دفئها أو ديكورها أو نورها زي مطار كوبنهاجن ومطار بلجراد ومطار السويد، وغيرها.

ليوناردو دافنشي- مطار روما
ليوناردو دافنشي- مطار روما

صليت في “الحجرات الصامتة” في بلاد متحضرة كتير. وكونت رأي وتقييمات لخطوط الطيران وكونت انطباعات عن سلوكيات كتير لجنسيات مختلفة من التعامل مع موظفين المطارات. حصل لي ارتقاء لدرجة رجال الأعمال بسبب تجميع نقاط المسافات عدة مرات، ودخلت صالونات ونوادي صحية وفنادق مطارات من أجمل ما يمكن. فاتتني طيارات واضطريت أبات في المطار أو في فندق قريب من المطار عدة مرات.

وعندي كمان حكايات ومغامرات مع إضرابات شركات طيران وعلى رأسهم لوفتهانزا. واتحجزت في مطارات بسبب الثلج وغيره، واتحجزت في مطارات أخرى لشبهة أو للتأكد من الهوية والغرض من السفر أو لتفتيش الشنطة. جريت في مطارات ألحق طيارة قبل ما يقفلوا البوابة لأسباب تأخير متعددة، ومطارات نسيت أو ضاع مني فيها حاجة و.. و.. و..و. حكايات ومغامرات أخرى في طيران داخلي زي فيو لينج وريان إير، واتعلمت أركب أتوبيسات بين البلاد “الفليكس بوص” فسحة وتوفير. وليا حكايات ومغامرات تانية في محطات قطارات زي روما “ترميني” ومحطة برلين ومحطات جميلة محببة زي محطة براسل في بلجيكا، ومحطة فايمر في ألمانيا وغيرها. واتعلمت “أطوق” في قطارات ألمانيا وعملت أبونيه قطر في إيطاليا. اتبهدلت كذا مرة مع قرارات التعويم والحد الأقصى للصرف أو للسحب اللي كانت بتتم وأنا مسافرة وكانت بتبقى حوسة.

***

اكتسبت خبرات في حجز الفنادق والإقامة في البيوت (إير بي ن بي) من شقة مع زميلاتي وصديقاتي من مختلف البلاد، إلى حجرة في منزل. لفيت المدن على رجليا وقعدت عالأرصفة والقهاوي وفي كل وسائل المواصلات أتكلم مع الناس وأحكي معاهم. ونتصور مع بعض ونتبادل الأرقام والأغاني وبتواصل معاهم بتطبيقات ترجمة (جوجل) لو مش بيتكلموا إنجليزي أو فرنساوي.

وزي ما ناس كتير بتعمل، من كل مدينة بجيب مغناطيس لوضعه على الثلاجة عليه اسم المدينة أو منظر أو حاجة مشهورة منها: مشروب، أكلة، جملة، حيوان. وبقت دي عادة متبعة في بيتنا مع أي سفرية لأي حد. ومن الحاجات اللطيفة ترتيب قطع المغناطيس للمدن المختلفة من نفس البلد جنب بعض. ثم ترتيب البلاد جغرافيا حتى أصبحت ثلاجتنا لعبة بازل غير مكتملة لخريطة العالم. ومن كل بلد نجيب أكلة أو منتج غدائي أو حاجة من اللي بيستعملوها في البيت. كونت صداقات كتير في كل مدينة زرتها. بعض الصداقات تطورت إلى صداقات عائلية وود موصول.

الجدير بالذكر برضه أن بعد عدة زيارات لبلاد ومدن شرق أوروبا وبعض دول آسيا القريبة وبخاصة الدول العربية اتغير مفهومي عنها تماما مقابل المنظور اللي كان متصور/متصدر لينا زمان بالمقارنة مع بلاد أوروبا الغربية من العالم الأول. وكذلك كونت فكرة مبدأية عن عيلتنا الكبيرة الإفريقية وبلاد الشرق الأقصى، لكن لسة لم تختمر بسبب قلة عدد السفريات مقارنة بأوروبا، ومازالت القارة الأمريكية قيد الاختبار.

***

وكتير كنت استغل فرصة الطيارة والمطار والترانزيت عشان اكتب بعض الملحوظات والانطباعات الحرة. لحد ما آن الأوان لتدوين كل الخواطر، ومشاركة غيري فيها. وبخصوص اسم سلسلة الحلقات، فكان نفسي العنوان يكون wanderlust وهو مصطلح معناه عاشقة سفر أو مجنونة سفر (قبل أن أعرف أنه فيلم كوميدي بطولة جينيفر أنيستون وبول رود 2012)، لكني لم أجد ترجمة تعطي المعنى المقصود. فاستوحيت عنوان السلسلة من برنامج كانت تعده وتخرجه أمي (هناء العشماوي) في الثمانينات في القناة الثانية في التليفزيون المصري بعنوان “ذكريات وحكايات”. وكانت بتختار فيه شخصيات مصرية تحكي للمذيعة في حوار سلس بعض من حكاياتها الشخصية المسلية والمفيدة وتكشف جوانب وملامح غير معروفة عنها في مجال عملها أو علاقاتها. لكني قررت أغيرها لـ«شنطة سفر».

وفي الحالتين أتمنى أن يكون لتلك الحلقات نفس حظ برنامج ماما من القبول والنجاح. أما عن نظرتي لبلدي مصر ومدينتي الحبيبة القاهرة بعد كل تلك السفرات، فهو ما سوف تتم مناقشته في آخر هذه الحلقات. والذي أتوقع مسبقا أن تحمل علامات التعجب والاستفهام والجدل والجدل والجدل، والكثير من الجدل.

اقرأ أيضا:

د.هبة صفي الدين: أن تزرع شجرة.. أحد اشتراطات البناء في القاهرة الفاطمية

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر