إسراء أبو زيد تكتب: وداعًا والدي «حسام»

برحيل أستاذي ومعلمي ووالدي حسام إسماعيل أشعر أنني فقدت جزءًا مني إلى الأبد لن تعوضه الأيام ثانيةً. كنت معه في لحظاته الأخيرة داخل المستشفى، وعندما أبلغنا الطبيب أنه دخل في غيبوبة كاملة وأن نسبة الأكسجين بدأت تتناقص بدأ قلبي يرتجف، شعرت أنها ستكون نظرة الوداع الأخيرة، وبعدها مباشرة أبلغونا بجملتهم المعتادة: «ميعاد الزيارة انتهت يا سادة!» ودعته في صمت وأنا على وجهي دموع الحزن. كنت أتمنى أن يودعني كما كان يفعل دائمًا، لكنني كنت متأكدة أن طيفه يحاصرنا وأنه يشعر بوجودنا جميعًا معه في تلك اللحظات. بمجرد عودتي للمنزل تلقيت مكالمة هاتفية يقول لي المتصل فيها «شدي حيلك!» لم أفهم الكلمة رغم أنني كنت أشعر بقرب النهاية. وهنا تذكرت سنواتي معه وبدأ شريط الذكريات يمر أمامي بسرعة تجعلني عاجزة عن الإمساك به ولو للحظة واحدة.

مفاجأة الامتياز

بدأت علاقتي بالدكتور حسام إسماعيل تتوطد منذ السنة الرابعة لي بالكلية. إذ كان معروفًا عنه أنه لا يتساهل أبدًا في قاعة المحاضرات. لم يسمح أبدًا بالـ«هزار»، كان جادًا تمامًا في محاضراته؛ لذلك كنت أهابه، وأخاف أن أسأله، بسبب جديته المعتادة خلال محاضراته. لم يكن تحقيق علامة «الامتياز» في مادة الدكتور حسام إلا مجرد «حلم» ونادرًا ما حقق طلابه الأمر.

سعيت جاهدة لأكون الأولى على الدفعة أملًا في الالتحاق بالتدريس الجامعي. لكنني فجأة عرفت كيف أحل«لغز» الدكتور حسام! الأمر جاء عن طريق الصدفة وتحديدًا في السنة الثالثة فقد كان يدرس لي مادة العمارة وعادة ما كنت أحقق معه تقدير «جيد» في مادته إلا أن الصدفة لعبت دورها فجأة، فحين أمسكت بورقة الامتحان وجدت أفكاري تتطاير. أتذكر أنني ذهبت للامتحان بدون نوم ولو لدقيقة واحدة؛ لذلك تبخرت المعلومات التي حفظتها. إلا أنني تذكرت التخطيطات التي كان يرسمها لنا دائمًا خلال محاضرته، فقد كنت أقلده وأحاول نقلها في كراستي.

كنت أجلس في الصف الأول، وكان يقول لي نصًا وقتها «بطلي كتابة وركزي في اللي أنا بقوله» إلا أنني لم أسمع كلامه أبدًا كنت أدرك تمامًا أن ما يقوله لن أجده في أي مرجع آخر. لذلك عندما دخلت لآداء الامتحان وجدت السؤال هو: «تتبع الطراز المملوكي في المدارس». وعندما عجزت عن الكتابة بدأت رسم الرسومات التي كان يرسمها لنا، مع إضافة المعلومات الأساسية التي ميزَّت كل منشأة عن غيرها. وعندما انتهيت من الامتحان توقعت الرسوب، ودخلت في نوبة بكاء طويلة لعجزي عن الكتابة؛ لكنني فوجئت أنه قد منحني «الامتياز!»

سر الدكتور حسام

عرفت وقتها ما لا يعرفه أحد من طلابه؛ أي فهمت ما يريده الدكتور حسام. إذ كان يكره الكتابة و«الدَش» ورص الكلمات وملء الصفحات بإجابات فضفاضة طويلة لا تعبر عن فهم، كان يحب التحليل والبساطة. لذلك قلت لزملائي وأنا أضحك معهم أنني قد عرفت سر الدكتور حسام من تريد منكم أن تحقق الامتياز عليها بالتوقف عن الكتابة! عليها بالرسم فقط! «ارسموا المساقط وحطوا العناصر الأساسية عليها وانتوا هتضمنوا الامتياز».

طوال هذه الفترة لم أقترب أبدًا من الدكتور حسام كنت أخشاه، وأخشى المرور أمام مكتبه، إلى أن مررت بموقف صعب خلال التيرم الأخير من السنة الرابعة. وجدت نفسي فجأة وبدون مقدمات أقتحم مكتبه. وهنا رحبَّ بي وبدأت بشكل لا إرادي أحكي له ما يزعجني. كنت وقتها أشكي له حمل الحياة خصوصًا بعد أن رحل والدي عني. وهنا دعى لي بالنجاح وتمنى لي تحقيق ما أريده. أي أن أصبح الأولى على كليتي وقال: أنا مثل والدك إن أردتي شيئًا مني لا تترددي أبدًا.

ذكريات

لم أقترب منه ثانيًا بعد هذا اللقاء لكن عندما أعلنت النتيجة بعد أشهر وجدتني فجأة أتصل به لأبلغه أنني حققت حلمي بكوني الأولى على الدفعة. كان فخورًا جدًا بي وقال لي «فكرتيني بنفسي فأنا كنت مثلك تمامًا فقد تركني والدي وعشت أوقات صعبة لكنني كافحت حتى وصلت لما أنا عليه الآن». بدأت من هنا علاقتي بالدكتور حسام عاملني كابنة له. إذ لم يبخل عليّ أبدًا فعندما فوجئت بأنني لن أعين في الجامعة نظرًا لوقف التعيينات داخل قسم الآثار بالكلية، أصبت مرة أخرى بالحزن. وهنا بدأ يشجعني مرة أخرى وقال لي: أنا أثق بك وأثق أن رسالة الماجستير ستصبح ضمن أفضل الدراسات المتعلقة بالآثار.

كنت أرفض أصلًا التسجيل لعمل الماجسيتر إلا أنه حرضني على التسجيل لكنني كنت مصرة على الرفض. إلى أن جاءني وبدأنا نتناقش حول موضوع الرسالة والتي جاءت بعنوان «أعمال لجنة حفظ الآثار العربية في المنشآت الدينية المملوكية» فوافقت على مضض. وهنا بدأت العمل معه بشكل عملي على أرض الواقع. فبدأنا توثيق تراث محافظة بورسعيد وكنا نوثق هذه المباني من الثامنة صباحًا وحتى غروب الشمس.

أتذكر أنه لم يكن يستطيع شرب القهوة -مشروبه المفضل-. إذ كنَّا نتنقل بالخرائط من مكان لمكان وكنا نتبادل الأدوار. أي يقوم هو بعمليات التصوير ويعهد إلي مسؤولية تسجيل المبنى وتوثيق حالته وتحديده على الخريطة. وكان وقتها يحاول إقناعي بالبدء في الرسالة. إلى أن بدأت بالفعل التركيز على الرسالة ووقتها أهداني نسخ أصلية كان يمتلكها لجميع كراسات لجنة حفظ الآثار العربية. وكان يشرح لي ما بداخلها وأنا معه على الهاتف.

حسام إسماعيل ودوريس والباحثة إسراء أبوزيد
حسام إسماعيل ودوريس والباحثة إسراء أبوزيد
***

كان يصلي العشاء خلال شهر رمضان ثم يبدأ بعدها يناقشني في الكراسات حتى السابعة من صباح اليوم التالي. فكان يقرأ معي مصطلحات الترميم المعقدة التي كان يعرفها عن ظهر قلب نظرًا لعمله كمفتش في هيئة الآثار. ولمدة خمسة أشهر كاملة تمكنا من مراجعة جميع كراسات لجنة حفظ الآثار العربية وعددها 41 كراسة. لم يتذمر مني أبدًا طوال تلك السنوات. وبالتوازي مع رسالتي عملنا سويًا على عدة مشروعات مثل: مشروع توثيق مباني بولاق أبو العلا التراثية. وكتبنا مقالًا آخر عن وكالات حي بولاق في القرن الـ19. ومشروع توثيق مباني بورسعيد التراثية، وكتاب «جزيرة الزمالك.. القيمة والتراث»، وكتاب «جاردن سيتي.. المدينة الحدائقية.. اسم ومعنى». بجانب مشروع توثيق وحفظ المباني التراثية برشيد (لم يكتمل). وكذلك مشروع توثيق «حمام» جرجا الذي كان من المفترض تنفيذه خلال الفترة المقبلة. بجانب إشرافه على رسالتي للماجستير.

رحم الله والدي الدكتور حسام إسماعيل، سأفتقدك جدًا.

                                                                                                             طالبة الماجستير بجامعة عين شمس

اقرأ أيضا:

ملف| «حسام إسماعيل».. الفارس يلملم أوراقه ويرحل

خالد عزب يكتب عن حسام إسماعيل: محاولة إعادة تأريخ وتوثيق تراث الدرب الأحمر

حسام إسماعيل: استكشاف وجوه القاهرة

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر