محراث البقر الأخير في العوامية.. «أحمد النجار» يحمي ذاكرة الأرض أمام زحف الجرارات

عند السادسة صباحًا، يتحرك «أحمد عبده النجار»، 67 عامًا، على عربته الكارو، وقد حمل فوقها محراثه الخشبي العتيق، وخلفه تسير بقرتان بنيتان، هما المحرك الحقيقي لهذا المحراث الذي يقاوم اندثار الزمن. يصل أحمد إلى «الغيط»، ينزل الأدوات بعناية، ويربط «النير» حول رقاب البقرتين بخبرة لا تخطئها العين، فتذعنان في هدوء. كأنهما تدركان أن موعد العمل قد حان. في الطرف الآخر يقف ناصر عبد الهادي، صاحب الأرض، حاملاً دلواً ممتلئًا ببذور الذرة الشامية.
الزراعة يدويا
جلبابه الأزرق القديم يلتصق بجسده النحيل، وعلى وجهه شارب أبيض خفيف، وعينان صغيرتان تلمعان برضا غريب. يداه المتشققتان، كأرض عطشى، تمسكان بالحبال والأدوات بثقة. يتحرك بهدوء وحنان. كأن كل ضربة للمحراث هي لمسة حب للأرض.
يربط أحمد النير على رقاب البقرتين برفق، يربّت على ظهريهما كأب يخاطب أبناءه. ثم يشد الحبال بحزم يعرفه جيدًا. أحمد النجار هو آخر من يعمل بمحراث البقر في منطقة العوامية جنوب الأقصر. مهنة ورثها عن أبيه وجده، وكانت عائلته مشهورة بها منذ عقود طويلة.
آخر السلالة
يقول أحمد وهو يشد الحبال بإحكام: “أنا بحب شغلي جدًا وباعتز بيه. ده مش مجرد رزق، ده حكاية وامتداد لتراث أجدادي. قبل أكثر من ثلاثين سنة، كان المشهد مختلف تمامًا، الجرارات كانت قليلة، وحرث الأرض بالبقر هو الأساس. وكان العاملون بالمهنة بالعشرات في كل قرية. لكن اليوم، ما بقاش في كل البلد غير محراث بقر واحد، وقريب هنصحى مش نلاقيه”.
ويرجع السبب إلى أن المهنة مرهقة وبطيئة وعائدها المادي محدود. ويشير أحمد إلى أن قيراط الأرض يحتاج من ساعة إلى ساعتين لحرثه. حسب نوع التربة، بينما ينجزه الجرار في خمس دقائق.
وتابع: “أنا باخد خمسين جنيه، في حين أن الجرار بياخد ستين، بس محراث البقر أفضل زراعيًا، لأنه يقلب التربة على مهل، وبيغوص فيها كويس. مع محاصيل زي الذرة الشامية، لازم البذور تدخل وتتغطى بشكل كافي. لكن الجرار ما بيقدرش يتحكم لا في مكان البذور ولا عمقها”.
ويضيف أن الجرار يضغط على التربة بسبب وزنه الكبير، ما يجعل البذور أحيانًا لا تنمو بشكل جيد. بينما يترك محراث البقر الأرض مفتوحة ومتوازنة.
ويؤيد “ناصر” هذا الرأي قائلا: “بعد حرث أحمد، المية لما بنسقي بتشربها الأرض بشكل كويس، وما بتتجمعش على سطح الأرض زي ما بيحصل مع الجرار. من غير أحمد ما أقدرش أزرع بنفس الاطمئنان، الجرار سريع آه، بس الأرض معاه بتتخنق. أحمد عارف كل شبر في الغيط، والمحراث بتاعه بيفتح لها نفس”.
يواصل أحمد شق الخطوط المتوازية بدقة، ويتبعه ناصر لينثر البذور، ثم يعود أحمد ليردمها برفق. “بياخد وقت في الأول، بس بيوفر تعب بعدين”.
معركة مع الوقت وتدريب البقر
يتابع أحمد: “غير الجهد البدني، فيه مشقة في تدريب البقر نفسه. أقل مدة تتعلم فيها البقرة الحرث 3 شهور. لازم تعرف صوتك، إشاراتك، إمتى تمشي وإمتى تلف، وتشتغل يمين وشمال. لو استعجلت أو خافت، كل الخطوط تبوظ”. كما أن الحفاظ على بقرتين في صحة جيدة يتطلب علفًا ورعاية يومية، وهي تكاليف إضافية دفعت كثيرين لترك هذه المهنة”.
يتنهد أحمد قائلا: “حاولت أعلّم ابني الشغل ده، لكنه رفض. وقال لي دي مهنة شقى ومش بتأكل عيش. لما أموت، أكيد هيرموا المحراث على السطح”.
إرث فرعوني يعيش بصعوبة
منذ العصور الفرعونية، ارتبط وادي النيل بالحرث الحيواني؛ فالنقوش على جدران المعابد ما زالت تروي حكاية المزارعين وهم يقودون الثيران عبر طمي الفيضان. ورغم أن الميكنة غيّرت وجه الريف المصري. فإن هذا الإرث لا يزال حاضرًا في بعض القرى، وإن كان يختفي تدريجيًا.
بين السولار والعلف
المقارنة بين الجرار ومحراث البقر لا تتوقف عند الوقت فقط، فمع ارتفاع أسعار السولار، يزيد إيجار الجرار في مواسم الذروة. بينما يظل أجر أحمد ثابتًا تقريبًا، ومع ذلك، يتكبد مصاريف دائمة لعلف البقرتين ورعايتهما. يعلق قائلا: “ساعات السولار يولّع. المزارع يرجع لي يقول: تعالى خلّص لي القيراطين دول على القديم”.
خبير التراث
يقول الدكتور محمد إمام، الباحث في التراث، إن محراث البقر ليس مجرد أداة قديمة. بل هو رمز من رموز الهوية الزراعية في صعيد مصر، وامتداد حيّ لطرق الزراعة الفرعونية، التي اعتمدت على الانسجام بين الإنسان والحيوان والأرض. “للأسف، هذه الأدوات تختفي الآن وسط هيمنة الميكنة الحديثة. رغم أنها يمكن أن تكون عنصرا سياحيا وثقافيا مهما”.
ويضيف إمام: “الأقصر بيجي لها وفود سياحية من كل العالم عشان تشوف تاريخ الفراعنة. وممكن محراث أحمد النجار يتحول لنقطة جذب سياحي. يشوف الزوار تجربة الحرث القديمة بنفسهم. ده تراث حيّ لا يقل أهمية عن المعابد والآثار، لأنه يربط بين الماضي والحاضر”.
ويقترح توثيق محراث أحمد وأدواته بتقنيات ثلاثية الأبعاد. وضمها إلى أرشيف رقمي يوثق أدوات الزراعة التقليدية في الأقصر، ليكون مرجعًا للمدارس ولبرامج السياحة التعليمية.
اقرأ أيضا:
نحاتان من الأقصر يؤسسان أول مدرسة ومعرض لإحياء فن النحت الفرعوني
«مزرعة الملك فاروق» بطفنيس.. إرث زراعي يتحول إلى كنز إنتاجي في الصعيد