دليل الفعاليات الثقافية فى مصر

الدليل - تعالى نخرج

نساء نجيب محفوظ

مثلَ طرحِ نموذجِ المرأةِ كفاعلٍ اجتماعيٍّ في روايةِ نجيب محفوظ فعل استعادة لرؤية أفقٍ آخرَ جديد للمرأة، في منظومةِ الجندر والحداثة، كعناصرَ جوهرية تُفسِّر طبيعةَ العلاقات والصلات التي تُشكِّل البنيةَ الاجتماعية. لذا فإنَّ سقوطَ المرأةِ، المُوحِلَ في الإنسِ والخطيئة، ليس «جِينةً» طبيعيةً في التكوينِ الإنساني، ولا ملكيةً متفرِّدةً تخصُّ المرأة، ولكنه برهان وانعكاس للانهياراتِ والمآزقِ الاجتماعية التي طالت الطبقةَ الاجتماعية آنذاك. وإن انسحاقَ قيمِ الحريةِ والعدالةِ والكرامةِ هو صدى للسقوطِ الساحق الذي حاقَ بفئاتٍ وشرائحِ البرجوازيةِ الصغيرة، في ظلِّ اختيارٍ تاريخيٍّ لتبعيةٍ كولونياليةٍ وافدة.

كل ذلك، ربما، أفسح مساحةً عريضةً تتسع لاستبصارِ المأساةِ النسوية في أنماطِ شخصياتِ نجيب محفوظ الروائية، ويفضي لاستقراءِ ظواهرَ عديدةٍ في هذا السياق. ولذا كانت «تيمات» المقاربة والتباين، التنوع، التماثل والتعارضِ خصائص نوعيةً أسهمت في التطور النوعي، وفي نمو وثراء الشخصيةِ الروائية.

فكان اكتشاف المرأةِ لقانونِ التحررِ من كافةِ أشكالِ الطغيان والقهرِ والاستغلال بالخروجِ عن النصِّ، والاحتجاجِ على عبوديةٍ جائرةٍ، والانتقامِ من ميراثٍ طويلٍ من النبذِ والاستبعاد، بانتزاعِ الحريةِ والكرامةِ عبر صورٍ من المقاومةِ والصلابةِ والتحدي. وكشفت عن وعيٍ عفويٍّ بحياةٍ أخرى ودنيا أخرى تحفل بهمومِ ورغائبِ عالمٍ مغايرٍ وتحولاتٍ تنفضُ الثوابت.

***

وتتجاوز الخطيئة كفعل قهري لأزمة وجود وتحقق حقيقي، بالتعبيرِ عن تجلِّياتِ الروح التي تكسب الجسدَ طاقةً حيويةً عبر كفاح مرير لتقويض صورة زائفة لجسد هَلوكٍ يُكرِّس لدينونةٍ ووضاعةِ المرأة.

وهي المرأة التي اقتسمت ملامح وقسمات واقع مأزوم وطبقة مهزومة أخفقت في إنجابِ مشروعِ وجودٍ حقيقي، فأنْتجت حياةً اجتماعيةً مبتسرة ومتردية طالها العجز والوهن وأجهضت كلَّ مظاهرِ النهوض والانعتاق.

فكابدت تجربةَ الإلحاقِ بدوائرِ الجماعةِ المغلقةِ والمتصدعةِ أيضاً (الحارة، العائلة، العشيق)، غير أنها استنبتت بذورَ عِتقِها، فأثمرت عن الخروجِ والخلاصِ من سلطةِ نظامٍ اجتماعيٍّ مقهورٍ أيضاً، جدَّ في محاولاتِ الإخضاعِ والترويضِ والتدجين دون جدوى، حيث كانت المواجهةُ بالتمردِ والعصيانِ للامتثالِ ولتبديدِ الغربةِ عن الحياة.

***

أبرز نجيب محفوظ سماتِ تلك النماذج في سرديَّته الروائية، وتبلورت في شخصية «نفيسة» في بداية ونهاية، التي تمثَّلت في فقدِ الأب «السند» وفي حياةِ العيشِ على الحافة، وانهمكت «نفيسة» على ماكينةِ الخياطةِ لتدبيرِ قروشٍ لقوتِ الأشقاء الذين نازعهم الصمودُ والترقي الاجتماعي، وبين رغبتها في أن تخصَّها حياةٌ إنسانيةٌ طبيعية. غير أنّ الرياح لا تشتهي لها تحقُّقَ أشواقها، فتسقط في أحضانِ الإثمِ والخطيئةِ قهراً.

ولتجدَ الأخَ الغارقَ في «الأنا» يسلبها الحقَّ في الحياة، فيدفعها إلى الانتحار، لتموتَ مرَّتين: مرةً حين أنفقت عمرها في الشقاء وفي تعاسةٍ بائسة، وأخرى حين أزهقت روحها.

وتمثلت في نموذج «نور» في اللص والكلاب، التي أوغلت في «الدَّنَس» لتجد ذاتَها أخيراً في قلبِ سعيد مهران، الثوريِّ الضائعِ والضالِّ الأبدي، في خلاصٍ تراجيدي. ويظلُّ في ضمير الجموع كما أرفدت نور ذاتَ مرة: «كأنك عنترة»، وهي التي أحبته بجدارةٍ ولم تخنه لحظةً واحدة، وهي الوحيدةُ بين الملايين التي تعرف مكانه دون أن يدري البوليس، وكأنها كانت تبحث عن ضالتها في أسطورة.

***

ويحفل نجيب محفوظ بتفرُّد المكان-التيه، أحدُ شواغله في البناء الروائي-فيبسط في الطريق نماذجَ شاردةً في متاهةِ المجهول. فصابرُ الرحيمي ينهبُ كافة السبل، مستطيراً وباحثاً عن «الأب» الغائب، متماثلاً مع «الأم» التي أغفلت تاريخاً معتماً ضاجّاً بالعهر، بموتها وضياعه في ماضٍ مفعمٍ بالبلطجة والجريمة والدعارة.

وتلازمه مع كريمة «الشبيه» الزوجة–العشيقة، التي تتفجر بأنوثةٍ طاغيةٍ ومقهورةٍ اجتماعياً، ليستعرض نجيب محفوظ صورةً بانوراميةً لوجودٍ ميتافيزيقي تتماثل فيه بسيمةُ عمران مع كريمة وصابر الرحيمي في تجسيدِ المأساةِ في أعلى مراحلها.

وفي «السمان والخريف» تتبدى صورة «عيسى الدباغ» الثائرِ الحائر بين ماضٍ يستعذبه ويؤلمه، وحاضرٍ غائمٍ حيث لا مكان له في ساحته، وهاجسٍ بمستقبلٍ لا يخبر بجدوى الآتي ودون معنى. أما «ريري» فتاةِ الليل التي هجرت الأهلَ والموطن للبحثِ عن الحب وحياةٍ كريمة، وليس لديها سوى ابنتها التي أنكرها «عيسى الدباغ»، فآثرت السلامةَ ولم تكترث بالخذلان، فعاشت وحدها حياةً أخرى جديدة.

***

وتتجسد ذروةُ المأساة في القاهرة الجديدة، حيث تشهد البغي «إحسان» سلسلةً من الانهياراتِ والهزائم التي طالت النظامَ الاجتماعي والشخصياتِ كافة؛ بدايةً من سقوط «الذات» الرومانسية. حيث قرأت مجدولين وآلام فرتر وآلام روفائيل، مروراً بلملمةِ أعقاب السجائر، وذريةٍ كبيرةٍ محرومةٍ من الخبز، وقهرِ «الأب» الذي يزجُّ بها إلى «سوق البغاء»، وزوجٍ «قوّاد» هو «محجوب عبد الدايم» يسلِّمها «لقاسم بك فهمي» ثمناً لصعوده وترقيته، تاركاً وراءه ماضياً من الفقر والبؤس والقنوط.

وتكفُر بـ«علي طه» الذي أحبها وأحبته، والذي ربما رأت فيه نموذجَ المناضلِ الذي يحمل عقيدةً متهافتةً وغائمة، حيث «تعرَّض لآلام التحول الفتّاكة»، ورؤيةٍ غائبةٍ في سؤالِ صحبته: «ماذا يخبئ لنا الغد؟» في ختام الرواية.

***

غير أن «زقاق المدق» شكَّل مجتمعاً آخرَ نسيجَ ذاته وموازياً لعالمِ المدينةِ الهائل؛ فشخصياتُ الزقاق لا ترى سوى ذاتها فحسب، ولا تعرف إلا ما عَتَّ للحارة وما نَدَر عن حيواتٍ أخرى؛ فالحارةُ المكانُ الضيق، الذي ولَّد أفقاً خفيضاً، وأشواقاً ضحلة وضئيلة، وعجزاً عن الخروج من الجلد، وكراهيةً أبديةً لعالم الحارة، حتى عرفت دنيا أخرى حين هجرت «حميدة» الزقاق، حيث عركت الحياةَ في عوالمه بجدارةٍ وجسارة، وتجهزت لأن تخبر عالمَ المدينة «الكوبرا» الذي تلألأ في ترفٍ ولمعانٍ زائف، حينذاك كان الخروجُ من الحارة، وتشكلُ الذات بوعيٍ آخر لدى «حميدة»، أكسبها تجربةً خصبةً ضاعفت من ملكيتها لإرادةٍ وصلابةٍ فولاذيةٍ في الاشتباك مع عوالمِ الإغراء والغواية.

وربما ضاعف الفقدُ والوحدةُ (مقطوعةٌ من شجرة) من مواجهةِ «حميدة» لكافةِ تصاريف الحياة، وأنَّ زادَها من طاقةِ الجسدِ الوافد مثَّل سلطةً أكدت على نماذجِ الحبِّ والجنس، وأنَّ ثمّةَ تناقضاتٍ أفضت إلى خلاصٍ ماثلٍ في سقوطِ البشريةِ في العذابِ الإنساني.

اقرأ أيضا:

أبناء طه حسين

لا أحد يخاف الصالة المطفأة

«منامات» سيد درويش الآن

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.