«حنيدق أم هنيديك؟».. أسطورة وَلي على عتبة الجسر

بالكاد يتذكر الحاج منصور (61 عاما) كيف كانت الاحتفالات بمولد الشيخ حنيدق في قريته، إذ كان عمره يقارب السابعة عندما هاجر مع عائلته من الإسماعيلية بعد حرب يونيو 1967.

يسكن منصور، بالمعاش، في عزبة «حنيدق الجبل»، التي يعمل أهلها  بالزراعة، وقد اكتسبت العزبة اسمها نسبة إلى ضريح قديم لشيخ كان يُقام له احتفال مولد في النصف الأول من شهر يوليو من كل عام. وتحمل قصة هذا الشيخ من التفاصيل ما يجعله أقرب إلى الأسطورة، وقد يكون شخصية نسجها المخيال الشعبي، بحسب رأي أستاذ في علم الاجتماع.

ضريح الشيخ حنيدق

اختفى الضريح، وأصبح أثرا مهملا بين مقابر القرية. نتيجة قصف وقع خلال الفترة ما بين حربي يونيو 1967 وأكتوبر 1973 على مدينة الإسماعيلية.

يقول الحاج منصور: “ضريح حنيدق موجود في مكانه، في المنطقة التي أصبحت مقابر القرية. ولكن لم يعد يتم الاعتناء به أو تجميله كما كان يحدث من قبل، فلا يوجد سور يحيط به، ولا حارس له. ولا يأتي أحد لزيارته منذ عودة السكان إلى المدينة بعد التهجير بسبب الحرب”.

ويضيف لـ«باب مصر»: ما أوعاش على المولد واللي كان بيحصل فيه. وإن كانت عائلة الحجف هي اللي كانت مسؤولة عن المولد وتنظيمه والأكل، لكني فاكر كلام إخواتي الأكبر مني وأمي عن المولد قبل الهجرة. وعن المنطقة اللي كانت مليانة ناس فرنساويين ويونانيين وإنجليز قبل الجلاء كمان. إنما من بعد حرب أكتوبر، مفيش حاجة من الكلام ده”.

ضريح الشيخ حنيدق
ضريح الشيخ حنيدق
حكاية الشيخ حنيدق

يقول الدكتور حمدي سليمان، الأستاذ بقسم الاجتماع في كلية التربية -جامعة العريش: “ربما تكون حكاية الشيخ حنيدق من الحكايات الغريبة التي يتوقف عندها الكثير من الباحثين في المعتقدات الشعبية. فهو شخصية أسطورية حاولت كل الجاليات الأجنبية التي كانت تسكن في مدينة الإسماعيلية نسبته إليها، إضافة إلى أبناء المنطقة من المصريين. وقد نال هذا الشيخ، الذي قد يكون وهميا، قدرا كبيرا من القداسة المبالغ فيها من قبل كل الجنسيات التي كانت تعيش في المدينة. حتى إن ضريحه والمولد السنوي. الذي كان يقام له يعد مظهرا قويا للتوافق والتجانس بين المصريين والجاليات الأجنبية”.

وقد ورد ذكر “ضريح حنيدق” للمرة الأولى في مذكرات فرديناند ديلسبس، صاحب امتياز حفر قناة السويس. حين وصف طريق برزخ السويس قبل بدء أعمال الحفر. حيث كتب في مذكراته المنشورة بالفرنسية: “خلال اليومين الأولين من مسيرتها في الصحراء. اتبعت اللجنة مجرى القناة الفرعونية القديمة. التي لا يزال ارتفاع ضفافها في بعض الأماكن، يصل إلى 25 قدما، ويتراوح عرضها أحيانا ما بين 40 و50 مترا.

وفي اليوم الثالث والعشرين، وصلت اللجنة إلى موقع معروف باسم الشيخ حنيدق، على ضفاف بحيرة التمساح. ثم اتجهت غربا، حيث قامت بمعاينة الوادي الذي كان من المقرر أن يمر فيه قناة المياه العذبة من القاهرة إلى بحيرة التمساح”. وفي موضع آخر من المذكرات يقول: “بعد اجتياز منطقة سرابيوم، فوق بحيرة التمساح، توجد نقطة معروفة باسم الشيخ حنيدق، وهي قبر لولي يدعى كذلك، وتم بناء القبر من الحجر الجيري المأخوذ من الطبقة التي تقع تحته”.

ضريحان في “حنيدق الجبل

في كتاب “رحلة إسماعيل في جميع محافظات وعموم القطر المصري”، المنشور عام 1927. ورد عن رحلته بالإسماعيلية: “بها ضريحان، أحدهما للشيخ حنيدق والآخر للشيخ داود الضاني، فالأول في جبل مريم ومولده في 15 محرم من كل عام، والثاني بالجبانة”.

وفي “كتاب أولياء الله – مصر في قصص كتابها المعاصرين”، الصادر عن دار نشر هنداوي، وردت قصة ضريح ولي في الإسماعيلية يحتفل بمولده كل عام، يُدعى الشيخ حنيدق. ويقال إن المسلمين يعتبرونه وليا مغربيا، بينما يقول الفرنسيون إنه ناسك فرنسي، ويعتقد اليونانيون أنه قديس يوناني”.

كما نشر في عدد مجلة “الدنيا المصورة” لشهر أغسطس 1927، تقرير عن زيارة “حضرة علي بك زاهر، مأمور الإسماعيلية بهذا المولد، وقد بلغ أقصى درجات الرونق والجمال، حيث دعا قيادات الجيش البريطاني وأعيان الجاليات الأجنبية إلى حفلة شاي أقيمت في مكان المولد، وذهب المدعوون إلي الإسماعيلية في رتل من السيارات تتقدمهم موتوسيكلات الكونسبلات الإنجليز، حيث استقبلتهم فرق موسيقية وكشافة من السويس والإسماعيلية، وتناولوا الشاي”.

نسخة زنكوغراف من مجلة الدنيا المصورة عدد أغسطس 1927
نسخة زنكوغراف من مجلة الدنيا المصورة عدد أغسطس 1927
مولد الشيخ حنيدق

وصف التقرير المولد بأنه ” كانت بحيرة التمساح، التي تقوم عليها الإسماعيلية، تمتلئ باللنشات والزوارق البخارية تنقل الزائرين ليلا ونهارا، فتشق البحيرة. ثم تسير في القنال ساعة طويلة حتى مكان المولد. وكان البعض يذهب بالسيارات عبر طريق من أجمل الطرق، أنشأته شركة القناة على طول الممر المائي، بين التلال. فترى ذلك الطريق متعرجا بين التلال البيضاء ويخترق الغابات والصحاري، ويسير محازيا للقنال حتى يصل إلى مكان المولد.

وهناك تنصب خيام الزائرين، حيث تنصب كل عائلة خيمة تقضي فيها أسبوع المولد، وتقام مضارب المشعوذين والملاهي والمغنيين والمغنيات، وأكواخ البائعين، ومضارب قبائل العرب. وكان النهار يمضي في مسابقات الخيل والفروسية، والليل في الرقص والغناء تحت ضوء القمر، حتى يخيل للمرء أن هذه الصحراء قد تحولت إلى مخيم دولي”.

من هو الشيخ حنيدق؟

منذ أكثر من ألف عام، توفي في جبال المغرب الأقصى ولي من أولياء الله الصالحين. فلما غسله المغسلون وكفنوه، وهموا بوضعه في النعش، طار من بين أيديهم وارتفع إلى السماء ثم اختفى عن أنظارهم.

وفي ذلك اليوم، كان بعض البدو يرعون أغنامهم في الصحراء الواقعة إلى شمال السويس. فرأوا شبحا طائرا يهبط إلى الأرض بينهم. وتبينوه فإذا به شيخ مكفن تشع منه الأنوار، فدفنوه في المكان الذي هبط فيه، وتناقلوا خبره وروته القوافل. حتى بلغ بلاده، فقدم إلى مصر بعض مريديه وأتباعه وأقاموا على قبره ضريح، وأبقوه في المكان الذي اختاره ليكون مرقده الأخير. هذا هو اعتقاد عامة المصريين في منطقة قناة السويس حول أصل الشيخ حنيدق وتاريخه، بحسب ما ورد في تقرير مجلة “الدنيا المصورة” عام 1927.

ويذكر أن القبر بقي في موقعه إلى أن شقت قناة السويس وتأسست مدينة الإسماعيلية. فشيد فوقه ضريح تعلوه قبة شامخة، وأحيط بسور منيع، وكان قريبا من محطة طوسوم. وهي المنطقة التي دارت فيها المعركة الحربية بين الجيش العثماني والجيش الإنجليزي في أواخر سنة 1914. وكان يقام المولد في النصف الأول من شهر يوليو، وتشارك في هذا الاحتفال الجاليات الأجنبية. إذ كانت تعتقد في الشيخ اعتقادا يختلف عن اعتقاد عامة المصريين.

ضريح الشيخ حنيدق
ضريح الشيخ حنيدق
ناسك فرنسي أم قديس يوناني

يرى الفرنسيون أن الشيخ حنيدق هو فرنسي اسمه “هنيديك”، وكان جنديا في حملة نابليون على مصر. وقد اشتهر بتقواه وتدينه وقوة إيمانه. فلما زحف بونابرت على سوريا، أقام في الصحراء نقاطا عسكرية لحماية خطوط المواصلات. وكان هينديك مقيما في الموقع الذي يوجد فيه ضريحه الآن، وظل به حتى وفاته.

أما اليونانيون، فيعتقدون أن حنيدق ما هو إلا قديس يدعى “هيدنيه”. جاء إلى مصر في فجر الديانة المسيحية، ومات فيها. وظل أمره مجهولا إلى أن بدأ ديليسبس في حفر قناة السويس. وكان رئيس العمال في تلك المنطقة مهندسا يونانيا كبيرا تحت إمرته عدد كبير من العمال المصريين.

الحفاظ على رفاته

وقد حدث أنه كلما حفر العمال جزءًا من القناة، عادوا في اليوم التالي، وإذا بذلك الجزء مردوما بصخور وحجارة. إلى أن جاءه القديس له في المنام يحذره من الحفر، طالبا الحفاظ علي رفاته. فأقام له المهندس ضريحا، وأصبح موقعا مقدسا.

ويلخص د. حمدي سليمان تناقضات قصة حنيدق بقوله: “المدهش في حكايات حنيدق، في كل هذه الروايات، أن هذا الرجل- سواء كان شيخا أو ضابطا، أو ناسكا، يونانيا أو مغربيا أو فرنسيا- هو شخص أو شيخ كوزموبوليتاني، متعدد الثقافات والجنسيات. كمدينة الإسماعيلية التي حملت أسطورته”.

اقرأ أيضا:

عادل مصطفى في معرضه «أحباب النيل»: أواجه ضغوط الواقع بالحلم في لوحاتي

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.