القاهرتان (16): أدب وأزياء… وعمران

بدأت النهضة الأدبية في مصر منذ منتصف القرن التاسع عشر، وتميزت بالاتجاه نحو الاهتمام باللغة العربية وتعزيز الهوية الوطنية مع الانفتاح على الحضارة الأوروبية. ساعدت عوامل أخرى على ازدهارها مثل تدهور الدولة العثمانية. ثم الظرف السياسي والاقتصادي الصعب الذي أدى للاحتلال البريطاني على أنه تظل ثورة 1919 هي المحفز الأكبر للأدب المصري الحديث ليصطبغ في كثير من موضوعاته بالصبغة الوطنية.

تطورت النهضة الأدبية المصرية منذ النصف الثاني من القرن العشرين، واتخذت موضوعات الأدب الرئيسية نهجًا واقعيًا عكست بحسب الناقدة وأستاذ الأدب العربي بالسوربون ندى طوميش «رؤية قلقة للعالم».

**

أدى التضاد العمراني والمجتمعي بين القاهرتين إلى انقلاب في منظومة القيم مما ألهم خيال الروائيين المصريين فانبرى بعض هؤلاء يعقدون المقارنات بين المدينة الحديثة والقديمة داخل قوالبهم الأدبية. لم تقتصر هذه المقارنات على عمران المدينين وحظ كل منهما من النظام أو من الفوضى فحسب. وإنما تطرقت إلى فكرة المواطنة في كل من المدينتين من خلال المسارات الحياتية التي يرسمها أبطال الروايات وشخوصها. ثم ما يؤول إليه هؤلاء جميعًا في نهاية المطاف.

لم تكن هذه المسارات مجرد “حواديت” متخيلة ومتقاطعة لسكان القاهرتين. وإنما صور دقيقة الوصف عبرت عن وجهات النظر المختلفة لإدراك واقع المدينتين والتي نعتقد أنها تساعد على فهم عميق لدقائق الحياة اليومية للقاهريين وفق قراءة متأنية للظروف الاجتماعية والسياسية التي صاحبت تشييد المدينة الجديدة التي ستصبح فيما بعد وسط المدينة.

تعتبر الناقدة الأدبية إيف دي دامبيير نواري أن الأدب المصري يتم تصنيفه منذ أوائل القرن العشرين على أنه “يكاد يرتبط كليًا بالحياة السياسية”. بالطبع يشهد تاريخ الدولة المصرية على العديد من التحولات الكبرى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أدت بدورها إلى تحولات أخرى في المشهد الحضري.

**

ومن ثم انتبه الأدب المصري إلى عمق تأثيرات هذه التحولات، ليتم بذلك غزو التاريخ السياسي للمجال الأدبي، ويصبح الأمر كما توضح نواري، «لافتًا للنظر بشكل خاص في مصر» وبطريقة خاصة «تتجلى على مستويين هما الدور الاجتماعي للأديب ومحتوى إنتاجه الأدبي».

ربما يجدر بنا في معرض الحديث عن تأثر الأدب المصري بحالة “القاهرتين” التأكيد على دور الروائيين المصريين في التعبير عن الحياة السياسية والاجتماعية. علاقة الأديب بهاتين الأخيرتين. وفقًا للناقد الأدبي ريتشارد جاكيموند، تؤكد خصوصية المجال الأدبي الذي غالبًا ما يُنظر إليه على أنه «تعاقب للأجيال» يرتبط ظهوره، في كل مرة، بـ«نقطة تحول في التاريخ الوطني».

ونظرًا لأهمية و خصوصية الأدب المصري. فإننا نعتقد أن تحليل الصور في بعض الروايات سوف تؤدي إلى فهم الروابط التي وصلت بين المدينتين وفق سياقات سياسية ومجتمعية جد متطورة.

**

سوف نحاول في المقالات القادمة تأطير هذه الروابط في شكل أنساق ترسم علاقة واضحة بين التطور العمراني للقاهرة الأم. وكذا التحول السياسي والمجتمعي منذ بداية القرن العشرين وحتى حريق القاهرة الكبير سنة 1952 الذي كان النذير الأخير بزوال النظام السياسي القائم برمته.

نعتقد بالتالي أن التحليل الحضري لأمثلة من الروايات المصرية سوف يسمح لنا بتصور محددات العلاقة بين المدينة القديمة والحديثة. ومن ثم سوف تؤدي تبني هذه الفرضية إلى سردية جديدة تساعد على فهم نشوء وازدهار المدينة الحديثة منذ أوائل القرن العشرين حتى سقوط أسرة محمد علي.

هذه السردية غير مروية وغير مكتوبة، ولا يمكن الكشف عنها بمجرد مطالعة الخطط والخرائط والصور أو بالاكتفاء بقراءة الأدبيات المنشورة في مجالي العمارة والعمران. من خلال ما سنعرضه في الحلقات القادمة من السلسلة ومن خلال ما سوف نورده من الروايات، سوف يلاحظ القاريء بوضوح دائمًا مجموعة من الأنماط أو الثيمات تصف العلاقة بين المدينتين، أو بين منطقتين تنتمي كل منهما لقاهرة من القاهرتين.

**

من خلال هذه التحليلات ذات الطبيعة الأدبية والمعمارية، يمكننا تكوين حالة جديدة من المعرفة للقاهرتين في ضوء التحولات الاجتماعية والسياسية التي مرت خلال ما يزيد قليلا عن النصف قرن.

وبالنظر إلى الرواية المصرية خلال النصف الأول من القرن العشرين يتبين لنا أنها قد تطرقت لمجموعة من القضايا السياسية والمجتمعية تم إسقاطها عمدًا على حالة المقابلة بين القاهرتين من خلال استحضار بعض العناصر العمرانية التي تعتبر شواهد على مجريات الأحداث لكل رواية. كذلك يلعب الحوار بين شخوص الرواية و الأوصاف الأدبية للأماكن المدينية الحقيقية أو المتخيلة في القاهرتين دورًا هامًا في إدراك المدينة. خصوصًا حينما يتم ترجمة هذا الإدراك إلى صور حسية تنقل الصورة والصوت والرائحة إلى المتلقي الأمر الذي يجعله يقف على مستوى عميق من فهم المدينة – المدينتين في حالتنا وسياقهما السياسي، الاجتماعي والاقتصادي.

الثيمة الأولى: المدينة الجديدة بين الانبهار والازدراء

 

كما رأينا في الحلقات السابقة، فإن أسلوب الحياة في المدينة الحديثة كان مختلفًا تمامًا عن المعهود في المدينة القديمة. أثر أسلوب الحياة الغربي على عادات وتقاليد ومظاهر المصريين المتفاوتين حظًا من حيث الثروة والعمر. على سبيل المثال في مجال الأزياء: ارتدى أفراد الطبقات العليا في المدينة الحديثة الصوف الأوروبي، وانتشرت البزة – البدلة – المكونة من السترة والبنطلون ورابطة العنق. على عكس معظم السكان التي عاشوا في المناطق القديمة حيث تسود الملابس المسدلة على الطراز الشرقي أو التركي كالجلباب و الجبة و الكاكولة.

أما بالنسبة للملابس النسائية، فقد انتشرت على الطراز الأوروبي، فارتدت النسوة في المدينة الحديثة البلوزة والجونيلا/التنورة والفستان المزركش وأصبح المعطف أو البالطو الأوروبي أو الفراء في مقابلة الملاية اللف والعباءة. أصبحت كذلك القبعات الأوروبية مثالًا للأناقة في المدينة الحديثة بينما في المقابل تتمسك نسوة المدينة القديمة بالبرقع واليشمك وبفكرة حجاب شعر الرأس عمومًا.

ساعد ظهور المتاجر “الألافرانكا” وبيوت الأزياء الكبرى في المدينة الحديثة مثل هانو وسمعان وشيكوريل على عملية التطور والانفتاح على صيحات الأزياء الأوروبية، يغذي ذلك ظهور نوعيات جديدة من المستهلكين، يؤكد ذلك جاك بقوله: «التغييرات التلازمية بين الاستهلاك والبنية الاجتماعية واللغة تأخذ قدرًا مهمًا في الاتجاه نحو التجارة الدولية».

**

وكجاك بيرك فقد علق عالم المصريات والباحث الفرنسي آرثر رونيه على هذه التغيرات في المظه، لكنه قام برسم علاقة بين انتشار الأزياء الغربية و ازدهار العمارة الأوروبية الجديدة في قاهرة إسماعيل:

“لقد تطورت القاهرة إلى مدينة حديثة ولكنها أقل جاذبية من قاهرة القرون الوسطى ذات السحر الشرقي الفتان. فهؤلاء الأفندية وهؤلاء التجار الذين يخجلون اليوم من الظهور في الشوارع إلا بملابسهم الأفرنجية كانوا إلى عهد قريب يتمتعون براحتهم الكاملة في قفاطينهم الحريرية الطويلة الواسعة.

وكانت المشربيات التي تزين واجهات الشوارع قديما تمتد في خطوط متواصلة حتى تختفي عند نقطة التقابل. حيث تبدو مآذن رشيقة ترتفع إلى السماء. أما اليوم فقد اختفت هذه المشربيات وحل محلها شبابيك مستطيلة لها ضلف من الزجاج وتم تصفيف المنازل على خطوط متوازية مستقيمة. اختفت إذن هذه المشربيات الجميلة المصنوعة من الخشب المخروط بتفنن فائق ولم يبق من آثار صناعة الخرط بالقاهرة، إلا قطع من الأثاث الغربية الشكل المصنوعة تقليدًا لها”.

**

نفس العلاقة بين الأزياء والعمران تم التطرق إليها لكن مع وصلها بالحركة الأدبية في عام 1926. حين قدمت المجلة الفرنسية الشهرية Jardins et cottages وصفًا لفيلا في القاهرة صممتها وكالة Azéma وEdrie وHardy من باب تأكيد فكرة هيمنة العمارة الفرنسية على الدول الأخرى لاسيما بعد نجاح الطراز النيو كلاسيكي في باريس. في هذا الوصف، تم التأكيد على غياب نمط معماري وطني في مصر، بسبب تأثير الغرب والفرنسيين على وجه الخصوص، تقول المجلة:

“ودعونا لا نتفاجأ بنقص العمارة المصرية المعاصرة. إن التغييرات في الفن المعماري لبلد ما تواكب دائمًا تغييرات مماثلة في الأزياء، وظهور بعض “البدع”. بالإضافة إلى التحولات التي أحدثها اكتشاف مواد جديدة. هذه الموضات وهذه البدع هي نفسها ناتجة عن التوجهات الجديدة للأدب والمسرح والتي تظهر تداعياتها بشكل كبير في الزينة الأنثوية وترتيب الديكورات الداخلية. لكن مصر، التي بدأ انتعاشها الوطني مؤخرًا، تحتفظ لديها بثقافة فرنسية حتى أن المصرية المتأنقة تقتني أزيائها من باريس”.

اقرأ أيضا

القاهرتان (15): هويتان وطنيتان

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر