سفينة الخلاص طبقا لـ ويجز

أول ما تذكرته هو العفار، وخيوط المصابيح الأمامية لعشرات الميكروباصات التي تنتظر الإقلاع في تلك الساعة المتأخرة. عرب المعادي يمثل المنطقة التي تم الاتفاق عليها كالنقطة البائسة في أي حي لكي تصبح ملتقى لكل ما هو نصف فرصة. هي النقطة المهملة بين المركز الأوليمبي، مزلقان القطار، بين الهاربين إلى لاسلكي، والقمر الصناعي، أو الفارين من المنطقة كلها إلى الكورنيش. إنها النقطة التي تم صنع كوبري المعادي من أجلها لتجنب الرؤية إليها، حتى لا تجرح عيون من تمتعوا بحديقة سفارة المكسيك الزاهرة قبلها بميل واحد. ثاني ما تذكرته هي اللافتة الضخمة أمام الموقف المبشرة بحلول مؤتمر الحزب الوطني الديموقراطي تحت رعاية لجنة مستحدثة اسمها لجنة السياسات الذي تم التسويق له بأنه أهم أحداث أول سنوات الألفية الجديدة وقتها.

العفار هو أول ما رأيته في الثواني الأولى لتراك مغني الراب\التراب ويجز “بالسلامة”، إيقاعات خافتة لا يمكن الوثوق بتصاعدها، ممهدة لحالة من القلق اللاحق. أصوات بشرية قادمة من قاع الليل الذي يتحفز لكي يصبح فجراً، تؤكد أنه “الطرد” وأنه “الساعي” أيضاً. ليتضح وجهاً قفز إلى الذاكرة دون إنذار، يخص قائد الميكروباص الذي كنت أستقله يومياً من العرب إلى التحرير، تمهيداَ لرحلة سفر مماثلة إلى مدينة نصر.

***

كان الأمر قد انتهى بشأن تعلقي بذلك التراك مع قدوم النداء أو ربما “التحذير التاني”، “إيدك فوق انت بتاعي”. كان أمراً مدهشاً أن يقفز إلى الذهن عيني ضابط اللجنة الذي طاب له إيقاف الميكروباص، وهو يتفحص الركاب، ليس بحثاً عن شخص بعينه، ولكن بحثاً عن دافع يمكنه تغيير حياة الركاب، والأهم منهم حياة السائق الشاب. العين تمسح “محتويات العربة” مع كل ضوء خارجي من الشارع ينير الموقف، النظرات المتبادلة كان تفصح عن تفاصيل المفاوضات الصامتة التي تجرى مع كل إجراء من هذا النوع، أن نشعر نحن بالإهانة الضمنية وأن يشعر الآخرون بالقدرة الرمزية على تغيير الأقدار، وفي المنتصف يحاول السائق اختيار نقطة في السماء الكالحة يحدق فيها، تجنباً لأي التقاء نظرات يساء فهمه مع الضابط. ويجعل من الساعات التالية جحيماً لا يمكن توقع موعد بدايته الحقيقية.

 

الإيقاعات الخاصة “بالسلامة” بكامل صخبها خلال الدقائق الثلاث التالية للتراك انطلقت مع ما أتذكره من كلمة “اطلع” والتي أعقبها بحركة إغلاق الباب الصاج. كل ما تلا ذلك هو وصف تفصيلي لطبيعة الرحلة التي استغرقت ثماني دقائق فقط بين المحكمة الدستورية العليا والتحرير، العجلات التي كانت تطير بسرعة ١٤٠ كيلومترا في الساعة، الرغبة المشتركة التي جمعت غرباء من خلفيات اجتماعية متضادة يحاولون الوصول لنهاية يوم مرهق بلا خسائر ثقيلة، أن يحلق الميكروباص من فوق كوبري الملك الصالح إلى مستقر نهائي يجلب معه السلام الأبدي. حتى لو كان ذلك الشعور بالإهانة طقس يومي.

***

وحتى لو كانت كلمات وصوت ويجز هو بيان رسمي بقدرته على التحدي ومجابهة الخصوم، وتوجيه إنذار مبدئي بأن التقليل من شأنه لن ينتهي فقط بعقاب مباغت ولكن تبشيرا بأن الخلاص سيكون من نصيبه، فيما سيكون مصيرك هو قاع الطوفان. إلا أن كل كلمة من ذلك التراك الذي سمعته للمرة الأولى مع بداية الجائحة في شتاء ٢٠٢٠ كان بمثابة المونولوج الداخلي لسائق ذلك الميكروباص الذي قفز إلى السطح بعد أن كان مدفوناً لنحو ٢٠ عاماً. شيء لم يكن بمقدور حميد الشاعري، أو بليغ حمدي أو السنباطي، أو أي اسم يتم وضعه ككارت للفوز بكأس الرقي أو الحداثة. مونولوج داخلي يمكن لـ”مولوتوف” الإسهام في إخراجه كمنتج أو ”producer“ برفقة شاب من مترسجية الورديان، ربما  كان في الثالثة من عمره وقت حدوث واقعة ميكروباص عرب المعادي. وهذا تحديداً ما فتنني بالراب منذ أن تعرفت عليه قبل ٣٠ عاماً.

في الوقت الذي وضعت فيه كل شيء له علاقة بمصر في خانة الماضي لأسباب تتعلق بالإخفاق المتكرر لحالة الفشل الدائم لتلك العلاقة. كانت عشرات التراكات لويجز ومروان بابلو وشاب جديد وبقية أسماء “السين” أو المجال تقدم عشرات الإجابات وضعفها من الأسماء والوجوه التي كنت أعتقد أنها اختفت بلا رجعة. منذ أن كان حلمي في صيف ٩٢ هو أن يسهم الحي الثامن في تكوين أول فريق راب مصري. وهي المحاولة التي تكللت بالفشل الذريع وأصفى الذكريات، من خلال وسيط لا يضطر أن يأخذ إذناً من المجلس الأعلى للثقافة، أو صك اعتراف من عبد الوهاب المسيري، أو مجلة روز اليوسف أيام عادل حمودة، أو إعجاب يسار النادي اليوناني والجريون، أو القائمين على دروس جامع الشربيني (قرب عباس العقاد)، أو لعنات محبي محمد حسان.

***

الأمر يتعلق بوسيط الراب، والذي كان غالباً بالنسبة لي منذ أيام فريق دي لا سول، أو MC Solaar من تردد شديد الضعف لراديو كندا المنطقة الوحيدة الأكثر رحابة في سياقات من حالات الفصام التي أدمنت الوصاية، وتجعل من سلطان السكري شخصاً أكثر نضجاً في التعامل مع تناقضاته الخاصة. على الأقل كان الراب سبباً في إدراكي مبكراً بأن القصبجي وفرقة صابرين الفلسطينية وعبد العزيز محمود وعباس البليدي وعبد الحليم نويرة لن يكون لديهم مانع من التعايش في مكان واحد مع دي جي توتي DJ Totti.

مفهوم الرحلة الذي رأيته فور سماعي لتراك “بالسلامة” ليس غريباً عن وسيط الراب والتراب، Tribe Called  Quest  فعلوها عام ٩١ أثناء قيامهم بعمل محضر إبلاغ عن ضياع محفظتهم في منطقة إل سيجوندو في كالفورنيا. أو  Notorious B.I.G عن معافرة كمل يوم ما بين أفكار الصباح الانتحارية ورحلة البحث عن أكل العيش ببيع الممنوعات في الولايات المجاورة، متمنياً أن يعثر على أسلوب أكثر كرامة للإنفاق على ابنته حديثة الولادة، ناهيك عن تيمة الوقوف المتكرر في لجان الشرطة، والتي أصبحت روتينا من ال٩٩ مشكلة التي يعيشها Jay Z ، قبل أن تتحسن أرزاقه مع الألفية الجديدة.

***

أنا لم أر شخصاً عرفته من قبل في أي من أغاني أنغام، أو مارسيل خليفة، ولكني زاملت وصادقت وعاركت العشرات من الذين يمتلكون “محافظ كلبوظة وتليفون بيرن”. وبالنسبة لروح مرهقة عامرة بركام من الحنق والغضب، لم أجد كلمات شافية أكثر من جمل “الضباع التي تباع بسعر المقاطيع”، أو “تلك الأقزام التي تشب والأرباع التي تشد، يا تسالي وقشر اللب“ المواضيع السبع المقبلة إضافة لهذا الموضوع هي ميكس تيب من المحبة عن سبع تراكات لكل من يشعر بالألم من سماع ذلك “الإسفاف” أو من لا يدرك إنه يعيش سياقاً يجعل منه “مؤقتاً” مجرد “كورة جوه سيرك”.

 

ميكس تيب: وسيلة بدأت في الانتشار بالتوازي مع سطوة وسيط الكاسيت منتصف السبعينيات حتى نهاية التسعينيات، مجموعة أغاني في شكل قائمة تشغل وجهي الشريط، تعد بشكل يدوي، تناظري في أغلبه، قبل أن يصبح رقمياً مع مطلع القرن الحالي، يعتقد أنه الشكل الفني الأكثر “استخداماً وتطبيقا” على المستوى الشعبي في أمريكا على الإطلاق،
اقرأ أيضا:

أشرف سويلم أول مصري يغني في المتروبوليتان: أوبرا عايدة قادتني إلى الموسيقى

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر