«القاهرة مؤرخة».. فصول عن تحولات المدينة التاريخية عبر الزمن

أقيمت ببيت السناري بحي السيدة زينب، ندوة لمناقشة الجزء الأول من كتاب «القاهرة مؤرخة.. فقرات من تاريخ وعمران المدينة عبرّ الزمن». الكتاب من إعداد وتحرير الدكتور نزار الصياد، أستاذ تاريخ كاليفورنيا بركلي، وشارك فيه نخبة من الأكاديميين والمؤرخين بمدينة القاهرة.. «باب مصر» يستعرض التفاصيل.

قاهرة القاهريين

تحدث الدكتور نزار الصياد، عن السبب الذي دفعه لفكره هذا الكتاب قائلا: “ما دفعني لإصدار النسخة العربية من الكتاب هو أنني دائما ألاحظ أن كل إنسان لديه «قاهرة» مختلفة عن غيره، وهذه القاهرة تعكس واقعه الذي عاش بداخله. سواء تلك الأماكن التي عاش فيها، أو التي ارتحل إليها من وقت لآخر. أو حتى الأماكن التي شاهدها في السينما والتلفزيون. لذلك فالفكرة الرئيسية هو أنني أردت تقديم عمل يضم أناس قاهريين عشقوا المدينة وحفظوها عن ظهر قلب. كما أنني أردت الجمع بين كبار الكتاب من الأكاديميين وكذلك شباب الباحثين”.

قطائع طارق سويلم

واستطرد الصياد حديثه عن الفصل الذي قدمه الراحل الدكتور طارق سويلم، مؤرخ العمارة والفن الإسلامي، والذي جاء بعنوان: «القطائع.. زيارة للمدينة المفقودة قبل القاهرة»، مشيرا إلى أن “سويلم” هو أحد أهم مؤرخي عمران مدينة القطائع، موضحا أن هذا الفصل ترجع أهميته في تقديم رسومات توضيحية لم تكن موجودة من قبل ومن خلالها توضح العلاقات بين جامع ابن طولون وبين القصر، والفراغات الرئيسية الموجودة. كما استطاع سويلم توثيق العلاقة بين هذا الموقع وبين نهر النيل وطريقة توصيل المياه له في نهاية الأمر.

جانب من الندوة
جانب من الندوة
تطور المدينة

وذكر الباحث عبدالرحمن الطويل، والذي كتب فصلا داخل الكتاب بعنوان «الفسطاط: عن حتمية الموقع وتطور المدينة» أن حتمية الفسطاط كمدينة بدأت منذ عهد مدينة منف والتي حددت موقع حصن بابليون. وهو الحصن الذي حدد مدينة الفسطاط، وهي حددت بدورها مدينة القاهرة.

يقول الطويل: “الفسطاط رغم أنها واحدة من أكبر مدن العالم الإسلامي في القرون الأولى، إلا أنه لم يُبنى بداخلها سور إلا في حدود القرن السادس الهجري. لذلك ناقشت في الكتاب هذا الجانب. ومدى انعكاسه على عمران المدينة، وحرية التوسع في العصور الأولى التي شهدت ازدهار المدينة، ثم ما تلاها من مراحل اندثار وانحصار للمدينة فيما بعد”.

وتابع: كذلك تحدثت عن نشأة خطط المدينة وانعكاسها على واقعها المعاصر في حي السيدة زينب، ودار السلام. أي الأحياء التي ضمت مدينة الفسطاط القديمة. كما كتبت عن المدن اللاحقة باعتبارها امتداد طبيعي للفسطاط مثل العسكر والقطائع، كونها امتدادات إدارية للفسطاط.

تساؤلات!

وقدم الكاتب حسن حافظ، فصله الذي جاء بعنوان: «مدينة الظاهر والباطن: قراءة جديدة لتاريخ القاهرة الفاطمية». إذ أشار إلى أنه لاحظ جماعات تؤدي الصلاة بشكل منفرد داخل الجامع الأزهر، وعرف خلال زيارته المتعددة فيما بعد أنهم جماعات من المنتمين لطائفة الشيعة الإسماعيلية. ومع الدراسة بشكل أوسع اكتشف أن البهرة والجماعات الإسماعيلية لا يزالوا حتى الآن لديهم نظرة تقديسية للمدينة. ولديهم حلم وهو العودة للمدينة مرة أخرى واستعادتها، باعتبارها مدينة الخلفاء الفاطميين.

يضيف حسن: هل للمدينة ظاهر نعرفه وباطن لا نعرفه؟ أي أن هناك علاقة جدلية داخل المدينة، نكتشف أننا نسكن داخل المدينة لكننا لا نعرف باطنها بشكل حقيقي. لذلك ناقشت مثلًا فكرة حديقة الأزهر أو الآغا خان، وهي الحديقة التي بناها الشيعة الإسماعيلية، وهي تعكس نظرتهم لمدينة القاهرة، فالفصل يهدف لقراءة تاريخ المدينة عبر مستويين وهما الظاهر والباطن منها.

من المناقشة
من المناقشة
علاقات استثمارية

أما أمينة عبد البر، مهندسة معمارية، تحدثت عن فصلها «قاهرة المماليك: بناء عاصمة السلطنة» وتقول: “إذا أردنا دراسة حقبة المماليك علينا دراسة الحقب التاريخية التي جاءت قبل هذه الحقبة، سواء الحقبة الفاطمية أو الأيوبية. فالمماليك عندما جاءوا إلى مصر ورثوا الحكم من الأيوبيين، ولم يكن انتقال الحكم بشكل دموي، لكنه حدث بشكل سلمي. ورغم هذا فقد أراد المماليك ترك بصمتهم الخاصة داخل المدينة. لكنهم وجدوا أنهم داخل مدينة مكتظة بالمباني؛ أي لم يكن هناك أي فراغات بداخلها، وبالتالي كان من الصعب شراء أراض جديدة للبناء عليها، لأن أغلبها كان عبارة عن وقف”.

واستطردت: من هنا بدأت بتحليل عمارة المدينة، باعتبار أنه جرى تكوينها عبر علاقات استثمارية في المقام الأول. فما حدث أن شجر الدر أحدثت تحولًا كبيرًا داخل المدينة عندما قررت دفن زوجها السلطان الأيوبي الصالح نجم الدين. فقد وضعت ضريحه في جزء من المدرسة المالكية التي أنشأها زوجها. وقد كانت عبارة عن جزء من القصور الفاطمية الشرقية خلال وقت سابق. فما فعلته شجرة الدر بهذا الأمر كان أمرا غير مسبوق، وهو أن يتم وضع الضريح داخل منشأة دينية داخل المدينة، وهذه الواقعة لم تحدث من قبل. وبالفعل قرر خلفائها السيّر على هذا النهج فيما بعد. أي أن شجر الدر قد خلقت لنا شكل جديد داخل مدينة القاهرة.

انحياز عمراني

يقول الدكتور ناصر الرباط، أستاذ كرسي الآغا خان للعمارة الإسلامية بمعهد ماسشيوتس للتكنولوجيا، مقدما فصله «الانحياز العمراني للعمارة المملوكية في القاهرة»: “دائمًا ما يُنظر للقاهرة المملوكية باعتبارها المثال الأفضل للعمارة الإسلامية خلال القرون الوسطى. أتفق تمامًا مع هذا الطرح لأن العمارة المملوكية من أجمل، وأدق، وأرق، والأكثر توازنًا من بين أنواع العمارات التي ظهرت في العالم الإسلامي. وكذلك العالم الغربي خلال فترة العصور الوسطى”.

وتابع: ركزّ فصلي داخل الكتاب على العمارة المملوكية في القاهرة. يتناول كيف أن عمارة المماليك قد حاولت التماهي مع أشكال الشارع داخل القاهرة. خاصة أنها كانت مدينة مزدحمة بشكل كبير، كما أن شوارعها كانت ضيقة جدًا ومتعرجة. لذلك فرعاة العمارة المملوكية من أمراء وسلاطين كان يهمهم أن يلاحظ المارة في الشوارع عظمة العمارة المملوكية.

فقد حاول المعماريون المماليك تأقلم عمارتهم مع طبيعة النظام العمراني لمدينة القاهرة، فاستغلوا الفراغات القليلة المتاحة لديهم على واجهة الشارع كي يظهروا ضخامة عمارتهم المملوكية. وهذا -من وجهة نظري- إنجاز عمراني كبير جدًا، لأن العمارة المملوكية استخدمت عدد صغير جدًا من العناصر التشكيلية، ورغم هذا فقد تحقق ما أرادوه إذ جعلوا واجهة مبانيهم معبرة بشكل كبير. وكانت مرئية من أكثر من زاوية في الشارع، وهذا يعود لرغبة المماليك في كسب ود رعياهم. إذ كانوا يدركون تمامًا أنهم ليس لهم أية جذور داخل هذه المدينة لأنهم جاءوا إلى مصر كعبيد؛ لذلك فهذا الاحترام الذي نالوه كان بسبب اهتمامهم بالعمران، وبالتدريس، والعبادة، والتزامهم بمبادئ الدين الإسلامي.

رؤية مشوهة

وقدم الباحث حامد محمد حامد، فصلا بعنوان «قاهرة النصارى.. في عصر سلاطين المماليك». يقول عنه: “القاهرة التي نعرفها اليوم هي قاهرة مختلقة. وأن كثير من العادات والتقاليد هي في واقع الأمر حديثة بشكل كبير؛ وبالتالي فنحن نصطدم برؤية مشوهة للعمران والتاريخ فقد سيطرت هذه الفكرة عليّ بشكل كبير خلال تناولي لهذا الفصل، أدركت من واقع تحليلي أن هناك اختلاف في وعي المسيحيين بأنفسهم خلال العصور الوسطى”.

وتابع: فكرة الفصل مبنية بشكل أساسي على أن هناك شخص نصراني يعيش داخل المدينة. أردت تحليل تفاعله معها في ذلك الوقت. إذ تخيلت أن مشاعره كانت تختلف تمامًا عن مشاعر التلقي الموجودة عند الشخص المسلم في ذلك الوقت. وطرحت هذه المسألة من جانب اجتماعي، فالموضوع لم يكن مجرد صراع ديني فقط، لكنه كان صراعًا اجتماعيًا لحد بعيد.

القاهرتان

الباحث في العمارة الإسلامية معاذ لافي، تحدث عن فصله الذي جاء بعنوان «القاهرة العثمانية.. بين منزلين». ويقول: “أردت تسليط الضوء على تاريخ العوام في القاهرة، هناك قاهرتان واحدة للعوام وأخرى للنخبة الحاكمة، لذلك قدمت نقدًا لهذه الرؤية”.

فيما قدم الدكتور حسام إسماعيل، أستاذ الآثار الإسلامية بجامعة عين شمس، فصلا بعنوان «من قاهرة إبراهيم إلى قاهرة إسماعيل». إذ أشار إلى أنه نتيجة للثورات المصرية المتتابعة خلال فترة الحملة الفرنسية على مصر، دُمرت الكثير من الأحياء داخل القاهرة، وعندما وصل محمد عليّ للحكم، وجد أنه أمام مدينة مدمرة وخصوصًا عند غرب القاهرة كالجمالية، والدرب الأحمر؛ لذلك قام محمد علي وابنه إبراهيم باشا بإعادة إصلاح الخراب الذي حلّ بهذه الأحياء وتعمير الجزء الغربي من القاهرة وجنوبها كمنطقة الزمالك وبولاق؛ لذلك فالفصل يشرح التحولات التي حدثت في المدينة خلال تلك الفترة.

مدينة شكلتها القضبان

المهندس المعماري عمرو عصام، تحدث في فصله الذي جاء بعنوان «مدينة شكلتها القضبان: تاريخ التنقل في القاهرة». إذ يغطي الفصل فترة زمنية، امتدت إلي ما يقرب من مائتي سنة تقريبًا.

يقول عصام: “مثلّت هذه الفترة التاريخية انقطاعًا مع عصر اعتمدت فيه المدينة بالكامل على منظومة التنقل التقليدية (الحيوانات – العربات المجرورة بواسطة الدواب). وشهدت ميلاد عصرا جديدا بدأ بانطلاق القطار البخاري وانتهى بتشغيل الخط الأول لمترو الأنفاق”.

وكتب المعماري في نهاية فصله: “الكثير من المدن شكلتها القضبان.. بين تلك – التي كانت القضبان بالنسبة لها عائقًا وفاصلًا ومحددًا. وبين النقيض من ذلك، تقف القاهرة في مسافة بينية كنموذج للمدن التي لعبت القضبان دورًا رئيسًا في نموها وتطورها العمراني. سواء شكلّت حدودًا فاصلة ومحددات واضحة من خلال الخطوط الحديدية لسكك حديد مصر ومترو أنفاق القاهرة الكبرى. أم كانت جزءًا من نسيج طرقات وشوارع المدينة مثل الخطوط الحديدية لشبكة ترام القاهرة – لا تزال  القاهرة واحدة من المدن التي شكلتها القضبان”.

مدينة مهجنة

وأنهى الدكتور عاطف معتمد، أستاذ الجغرافيا بجامعة القاهرة، الجزء الأول من الكتاب، بفصل «من النهر إلى البحر». تساءل فيه حول وضع المدينة الحالي. ويقول: “ما مصير نحو نصف مليون موظف في القاهرة التقليدية حين انتقالهم إلى العاصمة الإدارية الجديدة؟ وبما أنه لا توجد أية مؤشرات لتأسيس تجمعات عمرانية تناسب مستويات دخولهم المنخفضة. فهل سيعني هذا تكرار ارتحالهم “البندولي” في رحلة عمل يومي؟ ألن يؤثر ذلك على فعالية أداء الجهاز الحكومي الذي يعاني البطء والتعثر؟”.

ويضيف، يبقى أن نتذكر أن القاهرة عرفت مؤخرا بأنها تعاني الهوية الثنائية، مدينة قديمة تاريخية حتى الربع الأخير من القرن التاسع عشر. ومدينة حديثة منذ توسعات عصر إسماعيل. وباتجاه القاهرة شرقا، تكتب القاهرة وجها ثالثا سيزيد من تعقيد هويتها لدرجة قد يصعب معها تكوين صورة شاملة حرة منها، فتغدو أقرب إلى توليف هجين متنافر التكوين.

ويختتم حديثه: “ربما تكمن أول خطوة للحل في فصل كل التجمعات العمرانية شرق الطريق الدائري في مدينة مستقلة عن القاهرة. تصلح لأن تؤسس لنفسها اقتصادًا صناعيًا سكنيًا – سياحيًا جديدًا غير مرتبط بالعاصمة القديمة. وتكون لها حرية الوصول إلى البحر والقنال دون أن تجرّ خلفها القاهرة القديمة”.

اقرأ أيضا:

د.عاصم الدسوقي: الغرب خضعوا للعاطفة اليهودية.. وعلى العرب استخدام القوة| حوار

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر