تشويه وقائع اغتيال شهدي عطية في كتاب مختصر

نشرت دار المحروسة مؤخرا كتاب «الموت في تشريفه الحليف الوطني: وقائع اغتيال شهدي عطية الشافعي» للكاتب الراحل صلاح عيسى، وقد سبق أن نشر الكتاب في حلقات في مجلة «اليسار». وقد اختلفت صورة الكتاب عند نشره الصحفي عن نشره في كتاب، حيث تم حذف عدة فصول هامة. هل قام بهذا الحذف صلاح عيسى نفسه قبل رحيله؟ أم أن دار النشر ارتأت عدم أهمية هذا الفصول؟ ولماذا؟  هنا قراءة فى الفصول المحذوفة كمحاولة لفتح نقاش حول ما لحق بالكتاب.

**

في يوليو 1990 نشرت مجلة “اليسار” في عددها الخامس تنويها يقول: “من بين المؤجلات موضوع بعنوان “رجل من هذا الزمان” يروي القصة الكاملة لاستشهاد المناضل الشيوعي البارز شهدي عطية الشافعي تحت سياط الجلادين في معتقل أوردي أبوزعبل. ومع أننا أعددنا الموضوع بمناسبة مرور 30 سنة على استشهاده، إلا أننا أجلنا نشره في آخر لحظة إذ وجدنا أنه قد يكون أكثر ملائمة ألا ينشر مثل هذا الموضوع في شهر الاحتفال بعيد ثورة يوليو وهي مناسبة ينتهزها كثيرون للتنديد بالثورة ولحرمانها كل فضل حققته وكل إنجاز صنعته”.

وفي العدد التالي بدأ صلاح عيسى في كتابة حلقات مسلسلة عن شهدي عطية الشافعي، وبعد عشرين عاما من نشر هذه الحلقات، وفي الذكرى الخمسين لاستشهاده عام2010 نشر عيسي حلقات أخرى من الكتاب في جريدة القاهرة.

وعلى مدى سنوات ظل كتاب “الموت في تشريفة الحليف الوطني” واحدا من العديد من كتب صلاح عيسى المندرجة تحت بند “تحت الطبع” والتي تجاوزت 15 كتابا.

**

ومؤخرا صدر الكتاب وهو يحوي في آخر صفحاته ذلك النداء الذي وجهه صلاح عيسى لرفاق شهدي عطية عام 1990 وعنوان النداء “حتى لا يُزوِر التاريخ”: “يتمنى كاتب قصة اغتيال شهدي عطية الشافعي على رفاقه وزملائه وأقاربه وكل من كان طرفا في قصته من المسؤولين السياسيين ورجال الشرطة والنيابة آنذاك أن يزودوه على عنوان اليسار بكل ما قد يكون لديهم من تصحيحات وتدقيقات أو إضافات بما يساعد على إعادة تخليق الواقعة كما حدثت وبأقصى قدر مستطاع من الدقة ودون ظلم لأحد قبل نشرها في كتاب”.

**

ومن الواضح أن هذا النداء المكتوب منذ أكثر من ثلاثين عاما قد انتفى الغرض منه الآن، فالمؤلف قد رحل ومعظم رفاق شهدي رحلوا أيضا، ومجلة اليسار لم يعد لها وجود، فضلا على أن الكتاب قد صدر بالفعل ولكن نشره في آخر الكتاب ربما يكون دليلا على أن الناشر حرص كل الحرص على جمع الحلقات كاملة دون تدخل حتى في التنويه والنداء الأخير.

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

ولكن المفاجأة المدوية هي عكس ذلك تماما فمراجعة ما نشره صلاح عيسى على حلقات في مجلة اليسار، وما نشر في الكتاب وجدنا اختلافا كبيرا وحذفا لفصول كاملة شديدة الأهمية في مسيرة شهدي عطية. وكذلك في علاقة ومواقف الحركة الشيوعية من ثورة يوليو ونظام عبدالناصر.

من الفصول التي تم حذفها من الكتاب
من الفصول التي تم حذفها من الكتاب

في الفصل الأول تحدث المؤلف عن الخلاف الفكري بين شهدي عطية وهنري كورييل وأسبابه وذكر “تقرير سليمان” وهو اسم شهدي الحركي آنذاك وعكس هذا التقرير المعارضة الواسعة التي نشأت داخل حدتو لهنري كورييل، ورفض كورييل مناقشة تقرير سليمان في اللجنة المركزية فانسحب شهدي عطية ومؤيدوه ليكونوا منظمة أخرى باسم “حدتو التيار الثوري”. وكل هذه التفصيلات تم حذفها من الكتاب برغم أهميتها الكبيرة في مسيرة شهدي عطية والحركة الشيوعية.

**

وتحدث صلاح عيسى عن دخول شهدي السجن عام  1948 والحكم عليه بسبع سنوات ولم يخرج إلا في عام 1955، وهي محطات هامة تم بترها من الكتاب الصادر مؤخرا، تحدث صلاح  عيسى مطولا ومفصلا وبإسهاب عن شهر العسل بين الحركة الشيوعية وعبدالناصر وعن الخلاف وفترات التقارب والتباعد، وكل هذه التفاصيل تم حذفها دون سبب من الكتاب.

وكتب عيسى عن سنوات الصدام قائلا: “ولعل بعض عبث التاريخ أن كل القوى الوطنية التي شاركت في التمهيد لثورة يوليو قد صفيت فيما بعد وبقسوة جلفة بدنيا وسياسيا على يد الثورة التي كانت بين صناعها وأكرهت على إنهاء وجودها والجلوس بين مقاعد المتفرجين أو المصفقين بأمل أن يحقق ذلك الوحدة القسرية التي ينشدها فيهب الناس إلى إنجاز ما يريد منهم انجازه”.

ويعود عيسى ليتحدث مجددا عن هزل التاريخ وجده بعد ذكر تفاصيل اختلاف التنظيمات الشيوعية حول حركة الضباط الأحرار، فيقول: “ولعل من هزل التاريخ وجده أن المحصلة النهائية للظاهرة الناصرية قد كشفت عن أن كلا من الشيوعيين المؤيدين والمعارضين كان يقول نصف الحقيقة. إذ ثبت بعد زمن طويل أنها ثورة وطنية فعلا وديكتاتورية عسكرية حقا”.

**

ويتحدث صلاح عيسى عن فترة خروج شهدي من السجن عام 1955 ومساهمته في توحيد خمس منظمات شيوعية تحت اسم “الحزب الشيوعي المصري المتحد” الذي تأسس في فبراير 1955، وبعد عدة أشهر من هذا التوحد فوجئ الشيوعيين بعبدالناصر يحقق نقاطا هامة في برنامجهم، مثل صفقة الأسلحة التشيكية ومؤتمر باندونج والاعتراف بالصين وبروزه كزعيم وطني معاد للاستعمار وللأحلاف، فانتعش خط التأييد مرة أخرى. وبدأ شهر عسل جديد بلغ ذروته بتأميم قناة السويس، وكان بيان الحزب الشيوعي المتحد وقتها يقول: “الشيوعيين هم أخلص المناضلين من أجل حماية حكومتنا الوطنية ورئيس جمهوريتنا البطل الوطني جمال عبدالناصر”.

كان هذا البيان من أهم أسباب تسمية دراسة صلاح عيسى “الموت في تشريفة الحليف الوطني”، وكذلك نص الكلمة التي ألقاها شهدي عطية في المحكمة وأقواله في النيابة تأييدا لعبدالناصر وجميعها حذفت من الكتاب الصادر مؤخرا، ومازلنا في الفصل الأول فقط .

وفي الفصل الثاني من الدراسة المنشورة في مجلة اليسار بعنوان “الوحدة على ورقة انفصال” وهو محذوف بالكامل من الكتاب يتحدث فيه عن زواج شهدي عام 1955 من روكسانا بترويوس، وتأسيسه عام 1957 “مكتب مصر للترجمة والنشر”. ثم العمل على توحيد المنظمات الشيوعية من جديد فيما عرف بحزب 8 يناير 1958. ثم قيام الوحدة المصرية السورية وموقف الحركة الشيوعية منها وانهيار حزب 8 يناير بعد أقل من ستة أشهر على تأسيسه. ثم ثورة عبدالكريم قاسم في العراق وموقف عبدالناصر منها وانتهاء شهر العسل بين عبدالناصر والشيوعيين، والذي اشتعل بهجوم عبدالناصر على الشيوعيين في 23 ديسمبر 1958 ووصفه إياهم بالعملاء.

**

ويذكر صلاح عيسى ما كتبه محمد حسنين هيكل وقتها تماشيا مع حملة الهجوم على الشيوعيين بأن هيكل قال: “على الشيوعيين أن يضعوا على أفواههم أقفالا من حديد”. ثم كانت حملة يناير 1959 التي شبهها صلاح عيسى بحملات إسماعيل صدقي.

أما  الفصل الثالث بعنوان “الكل في واحد” فقد تم حذفه بالكامل أيضا يتحدث فيه صلاح عيسى عن الأسابيع العشر الأولى من عام 1959، والتي قضاها شهدي عطية في معتقل القلعة ضمن 163 من قيادات الحركة الشيوعية الذين شملتهم الحملة الأولى من موجة الاعتقالات.

ثم يتحدث عن الكلمة التي ألقاها شهدي في الجلسة الافتتاحية للمحاكمة في 8 مارس 1960 ومن ضمن ما قال فيها: “أنني أؤيد الحكم الوطني القائم لأن هذا واجب كل وطني مخلص لا أفعل ذلك طمعا في ثمن ولا رهبة أو خوفا، فقد سبق اعتقالي والحكم علي بالأشغال الشاقة في العهد الملكي، وقال لي والدي: “إن في الإمكان السعي لتخفيف الحكم، فقلت له السجن أحب إلي من أعمال الجبناء وسوف استمر في تأييد الحكم القائم حتى لو صدر الحكم بإدانتي”.

وبعد كلمة شهدي المطولة يتحدث عيسى عن المراكز الخمسة الرئيسية لإبادة الشيوعيين وهي معتقل المحاريق بالواحات والعزب بالفيوم وسجنا القناطر والسجن الحربي، وللتوضيح لم يكن صلاح عيسى في دراسته عن شهدي هو أول من تحدث بالتفصيل عن اعتقال الشيوعيين ومقتل شهدي، فقد بدأ الحديث عن مقتل شهدي من قبل ذلك وبالتزامن مع ذكراه الرابعة عشر عام  1974، وكذلك بالتزامن مع الحملة الممنهجة ضد عبدالناصر وعصره وبالتزامن كذلك مع القضية التي رفعتها أسرة شهدي عطية طلبا للتعويض.

**

كان “حسن فؤاد” أول من كتب  في مجلة صباح الخير في يونيو 1974 عن وقائع اغتيال شهدي، فقد كتب تحقيقا بعنوان “حكاية لا تصدق .. التعذيب حتى الموت .. القصة الكاملة كما حدثت”، بعد ذلك كتب إلهام سيف النصر وتوالت المذكرات حتى وصلنا إلى صلاح عيسى عام 1990 .

تستهلك تفاصيل مقتل شهدي عطية ثلاثة فصول من دراسة صلاح عيسى، تم حذف معظمها واختزال باقي التفاصيل في الكتاب هم فصول “عُرس الأوردي- القتل في تشريفة الحليف الوطني – عدالة الجلادين”، وربما وصلت التراجيديا ذروتها بكلمة المهندس محمد جمال الدين عطية الشافعي  شقيق شهدي أمام النيابة ردا على سؤال من النيابة فقال: “لما رحت المشرحة مع والدي إترجيت ضابط هناك إني أشوف الجثة وقت الغسل وشفت وشه.. كان عليه علامات رعب شديد.”

أما محتوى الكتاب الصادر فهو لا يقترب من شهدي عطية ومن تاريخه السياسي ومن مواقفه تجاه عبدالناصر، وكذلك من تفاصيل مقتله بقدر كبير وبذلك يصبح عنوان الكتاب قد تفرَغ من مضمونه، فلا القارئ فهم من هو الحليف الوطني، وكيف، ولماذا ومتى كان حليفا، ومتى دب الخلاف ولا عرف تفاصيل وقائع اغتيال شهدي عطية، ولكن الكتاب يركز في القدر الأكبر على تاريخ الحركة الشيوعية من قبل انضمام شهدي لها وعن الشق الأدبي في حياة  شهدي وكتاباته الأدبية في مجلات الرسالة ومجلتي وصحيفة المساء وعن كتاب أهدافنا الوطنية الذي كتبه شهدي بمشاركة زميله الدكتور عبدالمعبود الجبيلي.

والكتاب أيضا لا يخلو من هفوات أو نقاط عليها ملاحظات. فقد أسهب صلاح عيسى في الكتابة عن علاقة شهدي عطية بجماعة مجلة الفجر الجديد، ولم يذكر أهم حدث وهو أن أحد مقالات شهدي في المجلة قد تسبب في حملة اعتقالات عنيفة ضد محرري المجلة التي كان رئيس تحريرها أحمد رشدي صالح، ونتج عن ذلك اعتقال شهدي عطية ورشدي صالح، وكانت هذه هي أول مرة يسجن فيها شهدي عطية. وقد أرسل من السجن مقالا من داخل السجن بعنوان ” نحن في السجن” توقع فيه قتله مستقبلا في غياهب السجون. وبعد مقال شهدي أجهزت الجهات الأمنية على المجلة فأغلقتها تماما وكل هذه التفاصيل لم يذكرها صلاح عيسى نهائيا.

**

تطرق صلاح عيسى بالتفصيل لتأسيس دار الأبحاث العلمية الذي أسسه شهدي عطية عام 1943 وأغلقته الجهات الأمنية في حملة الاعتقالات في يوليو 1946 . وذكر صلاح عيسى ما نشر في الأوراق الرسمية من نشاط دار الأبحاث ومن أقوال شهدي ورفاقه لكنه وعلى غير عادته لم يذكر للقارئ رد فعل الصحف والدوريات وقتها عن دار الأبحاث فهي تمثل دفتر أحوال للمجتمع في حينها.

ولكنه اكتفى بالتقارير الرسمية على الرغم من أن ما ناله شهدي عطية وقتها من الصحف كان قاسيا. فقد كتبت مجلة “آخر ساعة” أن شعار معهد الأبحاث كان أجذبه بالجنس وأربطه بالنظرية.

هكذا بالنص كٌتب عنه في المجلات .وعلى الرغم من أن صلاح عيسى كان يستشهد بالصحف وما تكتبه عن الشيوعيين في الستينات فإنه أغفل ما كتبته الصحف عن الشيوعيين في الأربعينات، وملاحظة أخيرة فيما ذكر في الكتاب من أن نعي شهدي عطية نشر في صحيفة الأهرام، ولكن الصواب أن الأهرام لم تنشر النعي، وذلك وفق بحث في أعدادها طوال شهر يونيو 1960 ولكن النعي الشهير لشهدي عطية نشر في صحيفة الجمهورية وتحديدا في 20 يونيو 1960.

نعى شهدى المنشور في الجمهورية
نعى شهدى المنشور في الجمهورية
**

وأخيرا من المسؤول عن حذف كل هذه الفصول من الكتاب ليخرج بهذا الشكل المبتور من أصله ومن تفاصيله، ونكرر الكتاب عنوانه “الموت في تشريفة الحليف الوطني.. وقائع اغتيال شهدي عطية الشافعي”.  فلا القارئ عرف من هو الحليف الوطني؟ وكيف؟ ولماذا ومتى كان حليفا؟ ومتى دب الخلاف؟ ولا عرف تفاصيل وقائع اغتيال شهدي عطية.

اقرأ أيضا:

ملف: مغامرات «هيكل» في قرية الغوازي والغجر

 

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر