جبانات القاهرة التاريخية.. وقائع موت معلن

أقيمت أمس بإتحاد الآثاريين العرب ندوة «تراث القاهرة الحضاري وحتمية الحفاظ عليه»، وحضرها عدد من أبرز المتخصصين والمهتمين بتراث المدينة. كما شارك في النقاش عمرو موسى الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية، والذي عبر عن إستياءه مما يحدث حاليًا داخل القاهرة. الدكتورة جليلة القاضي أستاذة التخطيط العمراني المتفرغة في جامعات فرنسا، أرسلت إلى الندوة هذه الكلمة التي ننشر نصها كاملا.
***

مساء الخير جميعًا.  وشكرًا للدكتور محمد الكحلاوي لإتاحة الفرصة لي للتحدث عن بعد. وشكرًا لشهاب طارق لقبوله إلقاء هذه الكلمة التي سأحاول ان اختصرها في عدة نقاط:

النقطة الأولى: أن الأرض تكتسب قيمتها بمن يُدفنُ فيها، هذا هو شرف الأرض وهذا ما يعطي معنى لتراب الوطن، وهو ما ندافع عنه. أي رفات أجدادنا التي تراكمت عبر آلاف السنين على هذه الأرض الطيبة، وهو هذا التراب الذي يوحدنا ويعطي لانتماءنا معنى. فموضوع مداخلتي سيخص هذا التراب، أي مدافن القاهرة التاريخية. وهو موقع عمره 1444 عام، مسجل في نطاق القاهرة التاريخية كتراث إنساني منذ عام 1979. هو أيضا مسجل كأثر طبقا لقانون الآثار. حيث نصت المادة (2 إصدار) من قانون حماية الآثار رقم 117 لسنة 1983 وتعديلاته: أن الذي يحمي الأراضي المملوكة للدولة والتي يثبت أثريتها لوجود شواهد أثرية بها، (يوجد بالمدافن 75 أثرًا معماريًا مسجلًا)، و يحمي حرم الأثر، و خط التجميل المعتمد للأثر، الأماكن أو الأراضي المتآخمة للأثر وتمتد حتى مسافة ثلاث كيلو مترات في المناطق الغير المأهولة.

كما نصت المادة الثانية من القانون رقم 144 لسنة 2006 الصادر بشأن تنظيم هدم المباني والمنشآت غير الآيلة للسقوط والحفاظ على التراث المعماري على أن: يحظُر الترخيص بالهدم أو الإضافة للمباني والمنشآت ذات الطراز المعماري المتميز المرتبطة بالتاريخ القومي أو بشخصية تاريخية أو التي تعد مزارا سياحيا. جزء ضئيل من هذه المباني تم حصرها من قبل جهاز التنسيق الحضاري ومحافظة القاهرة.

كذلك لم يتم الالتزام بالمادة الرابعة التي تنص على أن: تُشكل في كل محافظة بقرار من المحافظ لجنة دائمة – أو أكثر لحصر المباني والمنشآت المنصوص عليها في الفقرة الأولى من المادة الثانية من هذا القانون ومراجعة هذا الحصر بصفة دورية.

وقائع موت معلن - الصورة من صفحة أنقذوا جبانات القاهرة
وقائع موت معلن – الصورة من صفحة أنقذوا جبانات القاهرة
***

ويشير الدكتور محمد حمزة الحداد في مقال حديث نشره على صفحته في وسائل التواصل الاجتماعي، أن عدم تسجيل المدافن ذات القيمة التاريخية والفنية والأدبية يعد خللًا إداريًا جسيما يستوجب المساءلة. مضيفا أنه اكتشف، أن الشطر الثاني من الفقرة الثالثة من المادة الأولى بقانون الآثار -المشار إليه آنفا- وتعديلاته تنص على أن رفات السلالات البشرية تعد في حكم الأثر المسجلة طبقا لأحكام القانون. ويتسائل “إذا كانت الرُفات البشرية في حكم الأثر المسجل فمن باب أولى المبنى الذي يضم تلك الرفات سواء كان قبة أو حوش يعد في حكم الأثر المسجل”.

كما نصت المادة الأولى من قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 2276 لسنة 2006 الصادر بشأن المرتبطة بالتاريخ القومي أو بشخصية تاريخية أو التي تمثل حقبة تاريخية أو التي تعد مزارا سياحيا (المرفقة) المنصوص عليها بالقانون رقم 144 لسنة 2006 على أن: يعمل بالمعايير والمواصفات للمباني والمنشآت ذات الطراز المعماري المتميز المرتبطة بالتاريخ القومي أو بشخصية تاريخية أو التي تمثل حقبة تاريخية أو التي تعد مزارًا سياحيًا (المرفقة) المنصوص عليها بالقانون رقم 144 لسنة 2006 المشار إليه.

لن أطيل عليكم في تفصيل هذه القوانين، فهذه ليست دعوى قانونية، ونصوص هذه القوانين موجودة ومتاحة للجميع. إذن زميلاتي وزملائي الأعزاء، أصبح جليًا أن عمليات الإزالة التي تتم على قدم وساق في عدة مناطق من جبانات القاهرة التاريخية منذ عام 2020، ومؤخرًا في السيدة نفيسة والإمام الشافعي. منافية لاتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي التي أقرها المؤتمر العام لمنظمة اليونسكو التي وافقت عليها مصر بموجب قرار رئيس الجمهورية رقم 1965 لسنة 1973 والتي تم التصديق عليها عام 2/1/1974.

بالإضافة لباقي القوانين المحلية المشار إليها وهي ضد كل الأديان والأعراف التي تدين وتجرم الاعتداء على حرمة الموتى وتدنيس قبورهم.

فلتكُف وزارة الآثار ورئاسة مجلس الوزراء باتهام من يدين ما يحدث في جبانات القاهرة التاريخية، بأنها ليست آثار وأنهم لن يمسوا الآثار.

***

النقطة الثانية: وهذا سؤال حقيقي لا أجد عليه إجابة حتى الآن. لماذا اختاروا أكثر المناطق في الجبانات تنسيقًا وقيمة؟ فالمناطق التي أزيلت والمهددة بالإزالة والتي أزيلت من قبل، مناطق مخططة بشكل جيد، شوارعها واسعة وظليلة، تحوي أكثر الأحواش التي تحمل قيمًا معمارية وتاريخية وروحانية. وكلها لشخصيات عامة ساهمت في بناء هذا الوطن ورفعة شأنه في المنطقة والعالم العربي. والمعروف أن هذه الشخصيات كانت حريصة على الدفن في رحاب الأئمة وأولياء الله الصالحين.

***

النقطة الثالثة: أن ما يحدث منذ عام 2020، من تدنيس للمدافن واعتداء على حرمة الموتى ودك عظامهم بالبلدوزرات ومحو تراث الأمة. هو حلقة من “وقائع موت معلن”، تم الإعلان عنها في مخطط القاهرة 2050، عام 2008 من قبل رئيس هيئة التخطيط العمراني الذي تولى رئاسة الوزراء بعد ذلك.

وقد نص هذا المخطط على إخلاء القاهرة من جميع مدافنها التاريخية. وكانت هذه المدافن قد تُركت لمصيرها دون أي تدخل منذ عام 1983، حينما قمت بدراسة جبانات القاهرة التاريخية. تركت عن عمد للتدهور ولسيطرة بعض البلطجية عليها من التربية وأعوانهم.

تركت عن عمد، تجتاحُها المياه الأرضية وتَغرق رُفات الأموات وتسبب انهيار للشواهد الفريدة والقباب الأثرية لتُضيع كنوزًا خالدة. كما حدث في ضريح آل طباطبا منذ عدة أعوام ويحدث حاليًا في قبة رقية دودو وعشرات الأحواش النادرة.

تركت لتستقبل من لا مأوى له، فتحولت إلى مدينة عشوائية من الدرجة الرابعة أو الخامسة. تتداخل فيها المناطق السكنية الكثيفة مع أحواش الموتى المحتلة من قبل فقراء المدينة.

***

أما الآثار العظيمة بداخلها، فهي تعاني من إهمال لا مثيل له. معظمها لا يحمل حتى بطاقة تعريفية ومغلق، لا نعلم عن حالتها الداخلية شيئًا، والبعض الآخر تحتله ورش السيارات والسباكة والحدادة أو النجارة المنتشرة في نقاط عدة في الجبانات الشرقية والقرافتين. هكذا تحافظ وزارة الآثار على الآثار، ولن تمسها بسوء طبقًا لتصريحاتها المتطابقة. لكن هل هناك سوء أكبر من الإهمال المتراكم على مدى عقود؟

بينما هي موقع لا مثيل له، ليس فقط في العالم العربي والإسلامي لكن في العالم أجمع. حتى أنها حظيت، بنوع جديد من الأدب، ظهر في مصر فقط، هو أدب الزيارة. وهو بمثابة “خطط مدن الموتى” مثله مثل خطط مدن الأحياء للمقريزي وعلي باشا مبارك فالأول هدمت مقبرته. والثاني كتب عليها علامة إزالة، ما علينا. ظهر هذا النوع من الأدب في القرن الحادي عشر واستمر حتى العصر المملوكي.

وعدد هذه الكتب كما يشير الدكتور أحمد جمعة “لا حصر لها، وقد فاقت هذه الكتب كل ما كتب عن خطط مدن الأحياء في مصر وخارجها. فضلًا عن أنه لم يكتب حول مدينة للموتى على ظهر البسيطة ما كتب حول مدينة الموتى داخل القاهرة”. وفي دراسة قامت بها الدكتورة مي الإبراشي لتحديد نطاق الجبانات الذي ستدرج في نطاق القاهرة التاريخية. قامت بحصر أكثر من 165 موقعًا في القرافتين الكبرى والصغرى. وقد تحدثت عنها خطط مدينة الموتى، وكانت هذه الكتب بمثابة كتب أدلة سياحية والإرشاد السياحي. وكان هناك نقيب ومشايخ وقائد شرطة للزيارة. كل هذا يزيد من القيمة اللامادية للقرافة.

جمال تحت التهديد
جمال تحت التهديد
***

حيث إن هذه العادات والتقاليد والمراسم كما يشير الدكتور حمزة الحداد تعد من أساسيات علوم الإثنوجرافيا والاثنولوجيا وهي أفرع من علم الأنتروبولوجيا الاجتماعية والثقافية. ويتساءل، فكيف الحال هكذا أن نفقد هذه الأبنية -والمواقع- بعاداتها وتقاليدها ومراسمها المسجلة تاريخيًا إلى الأبد وخاصة أنها تشكلت عبر 1444 عاما. كان من الممكن بدلًا من هدم القرافة وطمس معالمها، القيام بالتنقيبات اللازمة للكشف عن مواقع مدافن الصحابة الأوائل لتتحول لمزارات دينية وسياحية. لكنهم يفعلون العكس تمامًا، ولا لوم عليهم في الواقع. فقد تم من قبل، إزالة مدفن ابن خلدون والمقريزي، وشخصيات تاريخية كثيرة لا مجال للحديث عنها الآن. ولم يعترض أحد، وفي طريقه لإزالة مدفن يحيى حقي الذي تم إخلاؤه بالفعل، أما مدفن عميد الأدب العربي، فهو يقف وحيدًا “بين الأطلال”.. فعلام الاندهاش تجاه ما يحدث اليوم؟

***

النقطة الرابعة: موضوع مقبرة الخالدين أو مزار الخالدين، وهي فكرة روج لها في البداية بعض الصحفيين، والإعلاميين، ثم تبناها بعض المسؤولين في الدولة لتتجلى بعد ذلك في مشروع من المفترض أن ينفذ في العاصمة الإدارية. وقد تساءلنا عندما دار الحديث عن هذا المشروع، عن أي خالدين يتحدثون؟ عن تراكم على مدى أربعة عشر قرنًا لآلاف مؤلفة من الأعيان والشخصيات العامة والرواد المعلوم منهم والمجهول الذي ضاع شاهد قبره، ليس فقط على مستوى مصر، ولكن على مستوى المنطقة ككل، من رجال ونساء في جميع المجالات، الفن، والأدب، والشعر، والسياسة، والاقتصاد، والاجتماع، والتعليم، والعلم، والتاريخ، وعلماء الفقه والحديث وشيوخ أجلاء للأزهر بالإضافة للصحابة الأوائل وآل البيت وأولياء الله الصالحين، فقد تحول رُفاتهم لتراب اختلط بتراب ذويهم، فهل سيتم نبش قبور كل هؤلاء؟

وكيف سيتعرفون على رفاتهم؟ ولماذا ينقلون أساسًا وقد اختاروا أن يدفنوا في هذا المكان فأصبح بوجودهم المستمر فيه عبر العصور هو بالفعل “مقابر الخالدين” من أهل مصر والعالم العربي. لذلك يجب أن يتم إدانة هذه الفكرة ودحضها وبيان اللامنطق الذي تستند عليه، كذلك يجب الدفاع عن مقابر الخالدين الحالية، أي قرافة مصر تحت سفح المقطم.

***

النقطة الخامسة: هي بمثابة اقتراح، وهو أن يوجه هذا المؤتمر نداء عاجل للسيدة هيفاء بنت عبدالعزيز المقرن، رئيسة مركز الحفاظ على التراث، World Heritage Center من أجل التدخل لوقف هدم جبانات القاهرة التاريخية.

أخيرا: تخص ضرورة توثيق مناطق الجبانات وخاصة الأحواش ذات القيمة المهددة بالإزالة والتي سنفشل في إنقاذها. فهناك الكثير من المجموعات المتناثرة التي تقوم بجهود مشكورة، سواء بالتصوير أو بالرفع المعماري أو بتجميع سير الشخصيات المدفونة، وكلها في حاجة إلى حصر وتنسيق وتجميع وترتيب في قاعدة بيانات متاحة للجميع؛ لذلك أدعوا لإدراج هذا المشروع في أجندة اتحادكم الموقر. إذ سيمثل هذا التوثيق وسيلة إيكونوجرافية لحفظ ذاكرة المكان وما يضمه من كنوز عوضًا على الحفاظ الحقيقي.

 

المراجع:

دكتور أحمد جمعة، “أدب الزيارة القديم، وثيقة تاريخية وشاهد علي العظمة”، ورقة بحثية تحت الإعداد.

دكتور حمزة الحداد، نص نشر على صفحة المؤرخ، في وسائل التواصل الاجتماعي بتاريخ 2/6/2023.

.Historic Cemeteries, component of the urban regeneration project for Historic Cairo, February 15, 2013

اقرأ أيضا:

د. جليلة القاضي: جبانات القاهرة تراث عالمي.. والقانون يحميها (1-2)

د.جليلة القاضي: سأعود لمصر في حالة إعادة النظر في مخطط الجبانات (2-2)

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر