«فيلم عربي» إسرائيلي يثير ضجة على السوشيال ميديا

الاسم «فيلم عربي»، ولكنه فيلم إسرائيلي من إنتاج وإخراج إسرائيليين. الفيلم يعود إنتاجه لعدة سنوات مضت. ولكنه أصبح محور حديث الكثيرين على مواقع التواصل الاجتماعي في مصر خلال الأيام الماضية. بعد أن قام أحد الزملاء بنشر رابط للفيلم، قام بإرساله له مخرج الفيلم، رغبة منه في “إيصال فيلمه لأكبر عدد من المصريين والعرب”.

الفيلم وثائقي، يتحدث فيه مخرجه عن طفولته وعائلته، وبشكل عام عن اليهود من أصل مصري وعربي الذين ذهبوا إلى الكيان الصهيوني الوليد في منتصف خمسينيات القرن الماضي. وعن ارتباط كثير من هؤلاء بثقافتهم وذكرياتهم المصرية، وتعلقهم بها حتى بعد مرور سنين وعقود. من خلال شيء واحد طريف جدا، هو الفيلم المصري (العربي) الذي كان يعرض يوم الجمعة من كل أسبوع على التليفزيون الإسرائيلي!

إسرائيلي والأصل مصري

حسب البيانات المسجلة على الفيلم، يحمل اسم “شريط عربي” بالعبرية، و”فيلم عربي” بالعربية، وبالإنجليزية Arab Movie صدر في 2015. من إنتاج شركة صغيرة اسمها “طرابلسي”، وساهم في إنتاجه عدة هيئات حكومية إسرائيلية تابعة لوزارة الثقافة. وقد قام بإخراجه وكتابته إيال ساجي بيزاوي، بمشاركة سارة صفروني.

بيزاوي صحفي وباحث متخصص في السينما والثقافة المصريين، في بداية الخمسينيات الآن. يلقب في إسرائيل، حسب مقال كتبه محمد البحيري (صحيفة المصري اليوم، 27 يونيو 2015)، بـ”كاهن الثقافة المصرية”.

هذا بالفعل هو الانطباع الأول الذي يراود مشاهد الفيلم. فهو يبدأ بصاحبه يتحدث عن طفولته كيهودي في عائلة قادمة من مصر، والثقافة الخاصة والراقية التي كانت تميزهم. حتى عن كثير من القادمين من أوروبا، واعتزاز أغلبهم بالثقافة ونوع الحياة التي أتوا منها.

بعدها ينتقل بيزاوي إلى موضوع الفيلم. فيلم يوم الجمعة المصري، الذي كانت تنتظره كل إسرائيل، خاصة العرب واليهود من أصول عربية. بل وكثير من اليهود الغربيين، الذين لا يعرفون العربية.

حقائق غائبة

بغض النظر عن الانطباعات المتداخلة وردود الفعل المتناقضة. وبغض النظر عن الآراء والتحليلات والاستنتاجات والتنظيرات التي يمكن أن تنتاب أي مصري (وربما إسرائيلي) يشاهد هذا الفيلم، فهو يستحق أن يشاهد لعدة أسباب:

أول شيء هو المعرفة. والمعرفة لا تعني الحب أو الكره، بل الفهم.

والذي يمكن أن تعرفه الأجيال الجديدة (والقديمة) من هذا الفيلم، وأمثاله، كثير. من بينه أن اليهود المصريين (والعرب) كانوا يعيشون كمواطنين عاديين، في مجتمع متعدد الأعراق والجنسيات والديانات. لن نبالغ ونقول أنه كان قمة التسامح والتعايش، ولكنه، على الأقل، كان أفضل من معظم بلاد العالم آنذاك. وفي الوقت الذي كان يذبح فيه اليهود في ألمانيا النازية، وقبلها كانوا يتعرضون للاضطهاد في أمريكا وأوروبا كلها. كانت أوضاعهم في مصر، وبعض البلاد العربية الأخرى، أفضل بكثير جدا.

ويعرض الفيلم مثلا شخصية يهودي قادم من العراق اسمه باسم فتال. كان هو المسؤول في التليفزيون الإسرائيلي عن جلب وعرض الأفلام المصرية. وهو يتحدث بصراحة عن وجود قطبين متعارضين وراء الاهتمام بالثقافة العربية في إسرائيل: قطب يخشى منها ويريد تقليص وجودها ويسخر منها ويسمح بوجودها فقط لأغراض سياسية. وقطب لا يرى فيها غرابة أو شيئا كريها، بل يحتضنها باعتبارها جزءا من تكوينه.

أفيش الفيلم
أفيش الفيلم

من بين كل اليهود المصريين الذين يظهرون في الفيلم، لن تجد أحدا منهم يكره مصر، أو يتهم المصريين باضطهاد اليهود. وبشكل عابر يمكن ملاحظته من خلال بعض العبارات المتناثرة في الفيلم. يمكن أيضا أن نرى جذور التفرقة العنصرية والطائفية واختلاف الثقافات بين اليهود القادمين من العالم العربي، واليهود القادمين من البلاد الغربية. هناك تفاصيل وتعقيدات أخرى يمكن قراءتها من الفيلم. من بينها أن فكرة بث فيلم مصري أسبوعيا كان وراءها هدفان متناقضان: الأول هو هدف السياسيين الذين يسعون إلى كسب ولاء العرب وإرضاء اليهود الناطقين بالعربية. والثاني هدف بعض اليهود “الشرقيين”، الذين يعتزون بأصولهم، على الأقل في مواجهة “الغربيين”، ويريدون أن يظلوا على صلة بهذه الجذور.

تأثير طاغ ونتيجة وحشية

يبين “فيلم عربي” التأثير الطاغي، الهائل، الذي كانت تفعله الأفلام المصرية المعروضة على القناة الأولى الرئيسية. أيام كان التليفزيون يتكون من قناة واحدة أو اثنتان. تقريبا معظم اليهود الشرقيين وأبناءهم وأحفادهم كانوا يتجمعون أمام الشاشة. في طقس يذكر بطقوس انتظار وسماع حفل أم كلثوم الشهري. يروي ابن موشى ديان، مثلا، أن والده كان يحرص على التفرغ لمشاهدة الفيلم المصري أسبوعيا مهما كانت الظروف. حتى عندما كان وزيرا للدفاع، وأنه كان يتهرب من رئيسة الوزراء جولدا مائير ولا يجيب على مكالماتها خلال هاتين الساعتين. يقضيها في متابعة الفيلم المصري بتأثر واضح. وعندما يتخيل المرء أن رئيسة الوزراء كانت تطلب وزير دفاعها لشأن حربي يتعلق بقتال وقتل المصريين، تصبح هذه القصة معقدة للغاية.

ولكنها ليست أكثر تعقيدا من حكاية العجوز اليهودية مصرية الأصل، التي تشاهد أفلام حرب أكتوبر المصرية، وتتأثر بمقتل الجنود المصريين، لأنها تذكرها بمقتل ابنها الوحيد خلال الحرب مع المصريين! هذه السيدة تستمع في مشهد سابق لأغنية “رجعوني عينيك” لأم كلثوم، وتضع ابنها الراحل محل الحبيب الذي تتحدث عنه الأغنية. مشاعر مربكة ومركبة غير قابلة للفهم البسيط التبسيطي الذي نميل إليه، وحتى بمقاييس الأدب والفن العالميين، فهي مواقف ومشاعر استثنائية للغاية. هذا المأزق الإنساني الذي يحاصر معظم شخصيات الفيلم، قد يثير التعاطف، بالتأكيد، أو النفور الناتج عن مقاومة الشعور بالتعاطف، لدى الكثيرين، ولكن التعاطف أو النفور لا يجب أن يمنعان محاولة الفهم، فهم أشياء كثيرة معقدة، منها تلك الوحشية التي قد يتعامل بها إسرائيليون شرقيون ضد العرب، خاصة من البلاد التي ولدوا فيها، أو التي جاء منها آبائهم. فهذه الوحشية هي أيضا رد فعل عنيف في مواجهة المأزق الإنساني الذي وضعوا أنفسهم، أو وضعوا، فيه.

لعبة الأزمنة

من الطريف، والمثير للتفكير أيضا، أنه خلال الستينيات والسبعينيات، كانت هذه الأفلام المصرية تشكل تحديا للرقابة في إسرائيل، حيث كانت تقوم عادة بحذف مشاهد القبلات والرقصات والعري من الأفلام المصرية المعروضة!!

طبعا نعرف ما حدث بعد ذلك، منذ منتصف السبعينيات، عندما بدأت تغطية السينما والثقافة المصرية بالنقاب، في الوقت الذي انفتحت فيه المجتمعات في كل بلاد العالم الأخرى!

الفيلم يجيب أيضا على السؤال الذي حير أجيالا: من أين كان يأتي التليفزيون الإسرائيلي بالأفلام والمواد المصرية التي يبثها؟

الإجابة: كانت مواد مسروقة بالطبع، باعتراف سارقيها، وعن طريق سماسرة من الأراضي المحتلة وأماكن أخرى كانوا يقومون بتهريبها. ومن الغريب أن ظاهرة تهريب الأفلام والمواد المصرية تقلصت للغاية عقب اتفاقية كامب ديفيد. أولا بسبب وجود رقابة ومقاومة مصرية لهذا التهريب (رغم أهميته الهائلة ثقافيا وسياسيا)، وثانيا بسبب التطورات اللاحقة منذ التسعينيات من انتشار الفضائيات وحتى الوضع الحالي، حيث انتهت للأبد فكرة ربط مجتمع واحد أو مجموعة كبيرة من الناس، بقناة أو منفذ عرض واحد. بعد أن تحول العالم إلى ثماني مليارات جزيرة منعزلة!

اقرا أيضا:

رحيل الكاهن الماركسي: وليم سيدهم.. الثورة تسير على قدمين!

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر