رسالة إلى العميد في ذكراه

سيدي العميد..

أعرف أن رسالتي سترد ثانية، لأنه لم يستدل على عنوانك الذي أضعناه، كما أضعنا تلك «الأيام» التي عشناها معك، لأننا قهرنا بعولمة أيامنا.. لكن قدرنا أن نكون تنويعات على المصنف، وضوء عينيك قد صار «المصنف» الذي رأى ما لا نرى.. وبصٌرنا بما لم ندركه.

هذا قدرنا، كما كان قدرك أن تكتب «شجرة البؤس» لذلك رأيت شجرتنا ذابلة والموت قاب قوسين أو أدنى وكتبت «المعذبون في الأرض» لأنك نشدت الحرية كما نشدت العدل المستحيل.. و«مستقبل الثقافة في مصر» ثقافة كسيحة عرجاء.

وتودعنا بقليل من الأمل وكثير من الألم.. لأن أيامك أيام «قادة الفكر» الذين عشت في صحبتهم وعاشرتهم في المعارك النبيلة: زكي مبارك، ومصطفى عبدالرازق، وأحمد أمين، والدكتور هيكل، والمازني، وآخرين صاحبتهم ثم رحلوا ورحلت. وبقي منك ما تذكره قليلا، وما ننساه طويلا.

بقي منك قلقك الذي يغشى بعضنا، لأنك كنت مقلقا الباقية دائما، ساخطا دائما، مثيرا للسخط من حولك. باحثا عن سعادة حقيقية في الإخلاص والتفاني. ولا تسعى مجانا «وإن كنت أعلم بالمجان» على حد تعبيرك.

**

تسعى للسيرة ناقدا ومفسرا. وتسعى لآداب أخرى، لتعلمنا أن اليونان علمت العالم كيف يحيا بالحرية ويموت دفاعا عن الكرامة البشرية. وسعيت لثقافة إنسانية، فعثرت في مصر ثقافة مصرية إنسانية فيها شخصية مصر القديمة الدائمة وفيها شخصية مصر الخالدة. وينبغي ألا نهمل هذه الثقافة فتضعف أو يدركها الجمود، فلابد من أن نمنحها ما نملك من قوة وجهد لتنمو. فإن في نمائها، نماء لنا ولغيرنا.

ورأيت في هجر القديم ضرورة لأنه خلا من النفع والفائدة كما رأيت أن الجديد لا ينبغي أن يطلب لأنه جديد». وأن أنصار الجديد أمامهم طريق عسير ولابد وأن تكون لديهم لذة الشك والقلق.

وها أنت «السيد النبوئى»، تسعى للنبوءات وتقدس الحرية وتراها شرطا أساسيا للحياة. وأن الذين يلتمسون لوطنهم الحرية، يجب عليهم قبل كل شيء أن ينقذوه من الجهل ولا سبيل لذلك إلا بالعلم. والذين يلتمسون لوطنهم الكرامة لابد وأن يمكنوا هذا الوطن من تحقيق آماله من رقي واستقلال.

وسعيت، سيدي العميد للغة جميلة، ذوت في «لغة الروشنة». وسعيت لأيام ابتسمت لك في أكثر الأحيان، وعبست لك قليلا وبمقدار.

لابد وأنك استرحت بعد «رحلة الربيع»، وبعد أن قاسيت طويلا في «جنة الشوك»، استرحت بعدما حلمت بشهرزاد. استرحت في الخريف وظللت مرآة للضمير الآن. ضميرنا المعذب دائما في صوتك ولحظاتك.

اقرأ أيضا:

ملف| طه حسين عميد الأدب العربي.. البصير الذي جاء ليقود خطانا إلى النور

«من رسائل العميد» إلى توفيق الحكيم: من أين يستمد الأدب المصري الحياة؟

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر