بيتر بروك: ملك المسرح الذي عشق السينما!

بفضل اثنين من كبار نقادنا ومترجمينا عرفنا اسم بيتر بروك في فترة مبكرة من الثمانينيات.

الأول هو جبرا إبراهيم جبرا الذي ترجم كتاب “شكسبير معاصرنا” للناقد البولندي يان كوت، وفيه مقطع ختامي مهم عن عمل بروك على مسرحية “الملك لير”، والتي قام بروك بتحويلها إلى واحد من أبرز وأجمل الأفلام المقتبسة عن شكسبير.

أما الثاني فهو الناقد الراحل فاروق عبدالقادر، الذي ترجم عددا من كتب بيتر بروك، وكان واحدا من أشهر المتحمسين لأعماله ورؤيته المتفردة للفن.

أسطورة حية

منذ خمسينيات القرن الماضي تحول اسم بيتر بروك إلى أسطورة حية في تاريخ الفن المسرحي خلال القرن العشرين، يتناقلها شباب المسرحيين في العالم جيلا بعد جيل.

ومما غذى هذه الأسطورة وحافظ على بقائها أن بروك، الذي رحل عن عالمنا منذ أيام، قد عمر طويلا، بتسعين وسبعة أعوام قضاها على ظهر الأرض، وظل حتى سنوات قليلة مضت يعمل ويكتب ويحاضر ويسعى إلى البحث عن الابتكار والتطور بلا توقف.

ويعرف الكثيرون بيتر بروك رجل المسرح، لكن بروك لمع أيضا في مجال السينما وساهم في تطويرها وتغذيتها بنظرياته، من خلال صنع عدد من الأفلام الفنية الرفيعة، على رأسها “الملك لير” و”مارا/ ساد”، والنسخة المصورة للتليفزيون من مسرحيته الشهيرة “المهاباهاراتا” المأخوذة عن الملحمة الهندية المعروفة، والتي طبق من خلالها نظريته في فن الفرجة، باعتبارها طقس مشترك بين العرض وجمهوره، ومزج الفنون البصرية الحديثة، مثل السينما والفيديو بالمسرح، وربط الأعمال الكلاسيكية بقضايا العصر، والتعامل مع التراث الإنساني كله كـ شيئ مشترك بين البشر.

شكسبير عصرنا

عشق بيتر بروك أعمال شكسبير، خاصة مآسيه المتأخرة مثل “لير” و”هاملت”، والتي حولها إلى عروض تخاطب عصرنا، ما بعد الحرب العالمية الثانية واختراع القنبلة الذرية، كما أحب نصوصا أحدث مثل “مارا/ ساد” للألماني بيتر فايس، التي تدور خلال “عصر الإرهاب” في فرنسا، حيث راح صناع الثورة الفرنسية يقضون على بعضهم البعض، وقام بروك بتحويلها إلى عرض مسرحي مبتكر، قبل أن يقوم بتحويله إلى فيلم أيضا.

ولد بيتر بروك في بريطانيا، ولكنه استقر في فرنسا منذ مطلع السبعينيات وحتى وفاته، رافضا أن يحصر إنسانيته ورؤاه في بلد واحد أو لغة واحدة أو مجال فني واحد، مؤمنا أن الفنان الحقيقي هو إنسان عالمي، وأن الفنون تكمل بعضها البعض، وكانت أعماله خير برهان على هذه الفكرة، ما جعله مستساغا ومحبوبا ومثلا يحتذي لأجيال من الفنانين في العالم كله.

في كتابه “شكسبير معاصرنا” الصادر 1965 يلاحظ يان كوت أثر السينما على أعمال بروك المسرحية، خاصة في “الملك لير” و”تيتوس أندرونيكوس”:

” بيتر بروك ألف إخراجه لـ”تيتوس أندرونيكوس” من لقطات وسياقات (الكلمة تعني بمصطلحات السينما: “مجموعة اللقطات أو المشاهد التي تشكل حدثا أو فكرة درامية بعينها”)، لا من مشاهد. وفي إخراجه نجد أن التوتر موزع بالتساوي، ولا “فراغ” فيه. لقد حذف بعض النص، ولكنه طور الفعل، وخلق سياقات رائعة بصورها الدرامية. واكتشف بذلك في شكسبير مرة أخرى عنصر الفرجة المثيرة، الذي كان قد ضاع لأمد طويل.”

وبالفعل كان لبيتر بروك علاقة جانبية بالسينما تعود إلى بداية الخمسينيات عندما قام بتحويل مسرحية “أوبرا الشحاذين” إلى فيلم من بطولة لورانس أوليفييه، أعقبها بعدد من الأعمال الأخرى، منها فيلمه المذهل “مارا/ ساد”، 1967، الذي طبق فيه أفكاره عن استخدام أدوات الفن الشعبي والكرنفال لتحقيق “فرجة” تتسم بالحيوية والإبهار. وهو العمل الذي يمكن تتبع تأثيره على مسرحيين وسينمائيين كثيرين عالميا، وحتى محليا في مصر، ويمكن على سبيل المثال ذكر بعض أعمال الراحل نجيب سرور وفرقة “الورشة” وأعمال المخرج الراحل عبد الرحمن الشافعي وغيرهم.

3 أعمال خالدة

في 1971 قدم بيتر بروك أهم أفلامه وهو “الملك لير”، وهو مثل “مارا/ ساد”، نسخة سينمائية من عرض مسرحي لبروك، ولكنه ليس مسرحية مصورة، كما قد يتبادر إلى الذهن، بل عمل سينمائي بحت، يستخدم فيه تقنيات وخصوصيات الفن السينمائي، خاصة فيما يتعلق بأحجام اللقطات والمونتاج. وكما ذكرت أصبح الفيلم مثلا لعشرات من الأعمال المماثلة التي تتعامل مع الكلاسيكيات بحرية كبيرة في استخدام أساليب وتقنيات من مختلف الفنون والثقافات.

في منتصف الثمانينيات قدم بيتر بروك عمله المسرحي الأضخم والأكثر طموحا “المهاباهاراتا”، والذي يصل زمن عرضها الأصلي إلى تسع ساعات!

بعد سنوات من التجوال العالمي بالمسرحية قام بروك بتحويلها إلى نص تليفزيوني في حلقتين تصل مدة عرضهما إلى حوالي خمس ساعات ونصف ساعة، ولاحقا تم صنع نسخة أخرى أقصر يصل زمن عرضها إلى ثلاث ساعات.

ومرة أخرى تحولت “المهاباهاراتا” في كل من نسختها المسرحية والتليفزيونية إلى قمة وعلامة فنية في تاريخ الفن المسرحي خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ونموذجا يحتذي لعشرات من المخرجين والمؤلفين، ومتعة لا تنضب.

من سوء الحظ أن العرض المسرحي حالة حميمة من الفرجة لا يمكن نقلها بالصورة أو الكلمات لشخص آخر، وإن كان من حسن حظنا أن بروك قد خلد بعضا من هذه اللحظات الحية السحرية في بعض أعماله المصورة!

اقرأ أيضا

عقلية العوامة في قرار هدم العوامات!

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر