«أرشيف بيكيا»: تُدرج في الميزانية

أحيانا، تظهر بعض التحولات الكبرى في أوراق بسيطة. في عالمنا الحالي، تتعطش الدولة إلى ما يُسمى بـ”العُملة الصعبة”، وتحديدا الدولار الأمريكي الذي أصبح المعيار المالي العالمي للاستيراد والتصدير بعد فصل قيمته عن قيمة الذهب في السبعينيات. ولكن في عالم آخر، عالم الجمهورية العربية المتحدة التي قاومت الاستعمار حتى تملأ خزائن الدولة بإيرادات قناة السويس المؤممة. لم يكن الدولار الأمريكي معيارا حتميا بعد، وكانت دولة يوليو تنفق من خزائنها مباشرةً على مشاريعها الكبرى.

مع اختلاف السياق الاقتصادي العالمي والضوابط حول الأموال العامة. كيف كانت تحاسب الدولة على تكاليف استيراداتها في الستينيات؟ وإذا كانت للدولة سيولة بالجنيه المصري، كيف كانت تحول تلك الموارد المالية خارج حدودها؟ لقد وردت في مقالات “أرشيف بيكيا” السابقة بعض تفاصيل الحالة المالية لمشروع “الصوت والضوء” مثلا. وكيف احتجزت الجمارك المصرية الآلات المستوردة للعروض إلى حين فتح بند إضافي في ميزانية الدولة لسداد الرسوم الجمركية. ولكن كيف وصلت تلك الآلات إلى الحدود المصرية أساسا؟ وكيف دفعت الدولة قيمتها في غياب كارت الفيزا وشركة فوري؟

**

تعطينا وثيقة اليوم بعض الإجابات عن هذه التساؤلات. في 27 إبريل عام 1960، أرسل وزير الثقافة والإرشاد القومي ثروت عكاشة خطابا إلى وزير الاقتصاد بخصوص شراء آلات “الصوت والضوء”. بعد الإشارة إلى المشروع، طلب عكاشة من نظيره أن يتخذ الإجراءات اللازمة لدفع 212.000 جنيه مصري إلى شركة فيلبس (Philips) الفرنسية. سبق أن تعاقدت وزارة الثقافة والإرشاد القومي مع الشركة في 18 فبراير من نفس العام. واشترط العقد أن تتكفل الدولة بقيمة المشروع الإجمالية– أي 300 مليون فرنك فرنسي قديم –تنقسم إلى قسطين متساويين. يُستحق الأول منهما في ديسمبر 1960 والثاني في ديسمبر 1961. طلب عكاشة في نهاية خطابه أن تفتح وزارة الاقتصاد اعتمادين قابلين للتحويل. يساوي كلٌ منهما 150 مليون فرنك قديم، حتى يتم الوفاء بعقد الوزارة مع الشركة.

يستوقفني في هذه الوثيقة تعبيرا روتينيا استخدمه عكاشة إشارةً إلى حسابات مشروع “الصوت والضوء” المالية. فهو يشير إلى قرار جمهوري “يدرج” مبلغ 212.000 جنيه مصري في ميزانية مصلحة الآثار. رغم أن التعبير شديد الروتينية، إلا أنه تعبير خالص عن ماهية الميزانية العامة للدولة في المخيلة العامة. لا يطلب عكاشة من وزير الاقتصاد أن “يحسب” أو “يضع” أو “يكتب” أو “يسجل” المبلغ المطلوب، بل يطلب منه أن “يدرج” المبلغ في الميزانية. وكأن بنود الميزانية تمثل أدراجا لا متناهية في خزانة ضخمة تصل من أرض إلى سقف الدولة. يذكرني هذا المجاز بمكتبة بابل الخيالية التي وصفها الكاتب الأرجنتيني بورخيس، والتي كانت تمتد إلى ما لا نهاية بمثابة المتاهة الفكرية. وتحوي جميع الكتب الموجودة والممكنة في رفوفها.

**

تظهر الميزانية العامة للدولة كمتاهة للأرقام هكذا، وينفرد الموظف المالي بمعرفة سرها. حيث يستطيع بدفع رؤسائه أن يعثر على الدرج اللازم في الخازنة اللازمة لإدراج المبالغ اللازمة. نرى في هذا التصور بعض ملامح الخيال العام عن الدولة المصرية الحديثة. فهي لا تتجلى فقط في صورة الرئيس أو الوزير أو المسؤول الحكومي الذي يدير أشغالها. ولكنها تتجلى أيضا في صورة الأضابير المعتمة العارمة بالخزائن والأدراج، ولا يحيى أحدٌ في هذا المناخ المكتبي الكاتم إلا هؤلاء الذين يمتلكون سر المتاهة. لذلك فالاعتمادات المالية للدولة لا تُحسب في الميزانية العامة فحسب، ولكنها “تُدرج” فيها كآلاف المستندات في متاهة الدولة الورقية.

أما فيما يخص واقع الإدارة المالية لوزارة الثقافة والإرشاد القومي، فقد ترسم وثيقة اليوم بعض ملامحها الواقعية بعيدا عن المخيلة العامة. يتضح أولاً أن الوزارة لا تستطيع سداد قيمة عقودها مع شركات عالمية بدافع ذاتها. يتضح ثانيا أن ميزانية الوزارة ليست واحدة وموحّدة، ويستمر هذا الأمر إلى اليوم. حيث تتعامل وزارة المالية مع كلٌ من مصالح وزارة الثقافة على حداها عبر المقرر المالي المخصص لكل إدارة. إذن فالمبلغ الإجمالي الذي يجب سداده في مشروع “الصوت والضوء” يُحسب تحت ميزانية الآثار تحديدا، دونا عن أي جهات أخرى داخل الوزارة. وأخيراً، رغم التصور الشائع عن خزائن الدولة اللانهائية، إلا أن اتساعها الحقيقي يقيد بعض من حجم إنفاقها السنوي، أي حجم كل درج من أدراج الميزانية، وبالتالي تُدرج تكاليف “الصوت والضوء” الثمينة في سنتين ماليتين متتاليتين.

**

بعيداً عن تلك المعلومات المباشرة، تعطينا الوثيقة لمحة أخرى عن العمل الإداري الدؤوب الذي استمر فيه ثروت عكاشة طوال حياته المهنية. في الكتابات المعتادة عن مشروع عكاشة الثقافي، والتي تعتمد غالباً على مذكراته في السياسة والثقافة، يتركز السرد حول إنجازات عكاشة الثقافية، وتفكيره في البنية التحتية للثقافة، وضرورة تهيئة المناخ اللازم لإنتاج ثقافة رفيعة تُوزع على جميع أبناء الشعب. يتغاضى مثل هذا التركيز على الأفكار والمشاريع عن العمل الإداري اليومي الذي أفنى عمره فيه، والتي تصل تفاصيله المملة إلى حد مراسلة وزارة الاقتصاد والخزانة بانتظام، حتى يستورد للوزارة بعض المعدات لـ”الصوت والضوء” ويحررها من الجمارك مثلاً. إذن بعيداً عن مشروع عكاشة الفكري، لن تتحقق أحلامه الكبرى دون كفاءته الإدارية وإدراكه للموازين الحساسة للسلطة داخل القيادة الثورية. لم يكن ثروت عكاشة وزيراً مثقفاً فحسب، بل كان موظفاً بارعاً أيضاً.



للاشتراك في خدمة باب مصر البريدية اضغط على الرابط التالي:

Babmsr Newsletter

النشرة الإخبارية الشهرية
النشرة الإخبارية newsletter


اقرأ أيضا:

«أرشيف بيكيا»: رجاء التكرم بالتنبيه إلى اتخاذ الإجراء اللازم

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر