صباح المكن

 حين طوقني شعور بأن الآلات والماكينات الراسخة في مصنع الحياة هي محض كائنات أو مخلوقات قد امتلكت حسا بشريا أشبه بالشغيلة التي صاحبتها، عرفت أن تلك الصحبة، أعلنت عن وشائج آسرة. فاقتسمت نفس الحواس وذات السواعد الفتية. وأدركت أن تلك الألفة أنتجت هدير المكن الذي ينمو متمهلا حتى يعلن عن ضجة فاتنة كل صباح تتمازج مع خفق القلب المعبأ بالجسارة وجدارة الحياة معا.

**

اجتاحتني تلك التأملات حينما مررت بمصنع «شركة ستيا للمنسوجات الممتازة» الكائن بشارع مسجد البرنس إبراهيم بضاحية عزبة سعد. والذي عرفته الألسنة بشركة سيتي وذلك في طقس سيري الطويل الذي عهدته طويلا وعاودته ثانية. وحين فحصي لتلك البناية الهائلة ذات العنابر الرحبة والحوائط الشاهقة التي نسجت من شباك معدنية عريضة تحجبها نوافذ زجاجية ملونة متلاصقة مفتوحة خارج البناية تصلح لتنفس البشر والمكن.

وحيث لم يبق سوى أشباح من حصن قديم طالته خرائب الصمت، وأمل تبدد. ردتني تلك المشاهد إلى ذات أيام أزفت حيث كانت تبكر في الصباح حشود غفيرة من البسطاء رجال، نساء، صبية، سكنت الأحياء والضواحي المجاورة لمصنع “سيتا”. يودعون الحارات والأزقة والشوارع السد، يشقون السبل نحو المصنع. بصحبة عربة “المكرونة” التي كان يجهزها عم متولي بدكانه الصغير والذي كان يدنو من المصنع وقتها. وسمت تلك الضاحية بالصخب والدبيب الذي يبثه المكن والأفئدة.

شركة الغزل الأهلية
شركة الغزل الأهلية
**

حملت الشوارع الخلفية لبناية الشركة مظاهر شتى عبرت عن قيمة وجدوى هذا القوام. إطلالتها على خط ترام النزهة – البلد، ودنوها من مجرى المحمودية المائي حيث نشأت عديد من شركات ومصانع ومنشآت وما يحمله ذلك من معنى ودلالة. حيث تناثر في محيطها “معرض الزهور” للملابس الداخلية الراقية – بواقي تصدير، “مدرسة النهضة الثانوية الفنية للتعليم والتدريب المزدوج”. ملابس جاهزة (بنات) طباعة وصباغة وتجهيز منسوجات (بنين) 3 سنوات “معرض النهضة” أرقى بيوت الأزياء.

“صقر” للبطاطين والمنسوجات” فروع شركة ستيا تعلن عن تخفيضات بمعارضها على الملابس والمفروشات.

اقتحمتني أيضا ثمة ذاكرة أضاءت لي مساحات مقيمة في مسارات بشر. ليس لديهم من هموم سوى صناعة دروب الأمل، أو رهانات، سوى إنتاج الحياة. عبر ملكية “روح” الكد والكدح في شتى حقول الحياة. بادرتني تلك الخلجات حينما اجتررت طرفا من رحلة عبرها خصني شفف “بنسج” ماكينة الخياطة “سنجر” الكائنة بالبيت أيامها. ساورني ولع بكرة النسيج الملونة في صباي. قصاقيص من بقايا ما خاطته شقيقتي الكبرى. أقطع طريقا طويلا حاملا بهجتي حتى أبلغ دكان عم وليم صاحب النول اليدوي – بشارع البيرة بالإبراهيمية. ليغزل من الكرة أبسطة بديعة وزاهية، تميزت بالبساطة والدقة.

أو ما يحضرني من تردد شقيقتي الكبرى على “محلات ليليكيان إخوان” 17 شارع فرنسا بالمنشية. لتأتى بلفائف خيوط التريكو لتصنع أردية أنيقة، وولعها باقتناء باترون مجلة حواء. حيث تلقت دروس التفصيل بمدارس “فيرا” بشارع سعد زغلول بالإسكندرية حين طرقت ثانية سبلا طرقتها مرات ومرات. ألهمتني غواية السير، التقاط ما فر من ذاكرتي من صور ومشاهد أدركتني وقتذاك، فتراءت قبالتي “دار بورصة ميناء البصل” في الإسكندرية. وشركة “أقطان خوريمى بناكى” الكائنة في 8 شارع فؤاد الأول. وشركة “مصانع الشوربجي للغزل والنسج والتريكو” والتي تأسست في عام 1932. شركات السيكورتاه وفرفره القطن والشون والمخازن بميناء البصل.

**

وعندما لاحت لدي محلات الأزياء التي ذاعت وميزت شوارع وميادين المدن البارزة في عموم القطر المصري. “شيكوريل وشملا” بشارع شريف وسعد زغلول. “الصالون الأخضر” بشارع مسجد العطارين وما شابها من منافذ أخرى. شركة “بيع المصنوعات المصرية” بميدان محمد على. “سيكورتاه الأطلس” بشارع أديب، و”مانيفاتوره شربيط فليكس” 15 شارع سوق الخيط. و”زوزو ومصانعها” بشارع نوبار، “نسيم كوهين” بميدان محمد على. أدركت القسمة بين شرائح اجتماعية راقية وموسرة سعت إلى البعض منها، وشرائح وسطى وشعبية أخرى مضت إلى البعض الآخر.

كل ذلك أنطوى على أن هناك معامل ومختبرات أخرى هائلة. أسهمت في نشوء بيوت الأزياء الجاهزة وذيوعها في كافة أرجاء المجتمع. فكان “رينهارت وشركاه” وكلاء مصانع جميع أنواع ماكينات الغزل والنسيج ولوازمها شارع أديب – الإسكندرية. وشركة “حلج الأقطان والتصدير المصرية”، شركة مساهمة مصرية (ت. ب: ميتراكي وشركاه – سابقا) تأسست في عام 1902، 15 شارع طوسن باشا – الإسكندرية. “ستيشل كوتس وشركاه ليمتد” – مستوردون ومصدرون وأيضا “وكلاء هنري مارتين وشركاه”. “مانشتر وتوتل برود هدست ليمتد”، “مانشستر لنسج الأقمشة بأنواعها”، وخيوط الغزل القطنية والصوفية والحريرية الطبيعية والصناعية وغيرها. وانعقاد مؤتمر القطن بمتحف فؤاد الأول الزراعي في عام 1948، واتحاد تجار المنسوجات – 19 شارع كولوتشتي – الإسكندرية، ويحضرني شارع أساكل الغلال، وساحة بكير ومخازن برشلونة.

فرغلي باشا
فرغلي باشا
  **

في ظل تلك الأجواء برزت رموز لامعة، أضاءت فضاءات الغزل والنسج. فرغلي باشا (أمير القطن) وسباهي بالإسكندرية، اليونانيون المشتغلون بالقطن في قرى ومدن عموم القطر المصري. الروائي تسيركاس (اليوناني) الذي سكن مصر وعمل لدى محلج القطن بديروط بالصعيد. حيث احتل الأشغال بالنسيج مساحات شاسعة في عديد من الروايات والكتابات، مدام (ليكو) (كورسيه) اختصاصية في الكورسيهات والسونتيانات لأحدث طرز (خياطة حضرة صاحبة الجلالة الملكة) 15 شارع فؤاد الأول.

تداعت لدي أطياف تمثلت في كيانات عبرت عن اتحادات وجمعيات عمالية أسفر حضورها – طيلة القرن العشرين – عن وقائع وأحداث لافتة للاعتبار تجلت في ظواهر شخصت في مظاهر تردي الحال الاجتماعي في مصر. حيث طال البؤس والفقر عديد من فئات اجتماعية والتي حصدت تدنى الأجور والتعطل عن العمل.

غير أن تلك الأوضاع أفرزت صور وأشكال من النقابات تتبني هموم عديد من المقهورين فكانت نقابة “عمال شركة الغزل الأهلية” بشارع يوسف الحكيم بالإسكندرية ونقابة “عمال الغزل والنسيج” بخان الخليلي في القاهرة ونقابة “خريجي المدارس والورش الصناعية” بميدان باب الحديد بالسبتية.

**

تلك النقابات ألهبت مشاعر العمال وأججت السخط من عسف وجود طالهم زمنا طويلا ففي عام 1925 أضرب نحو 300 عمال من نساجي الحرير لضآلة أجورهم. وقد تدخل البوليس للمحافظة على الأمن العام واستأنف العمال العمل في العام 1926 بعد تشكيل نقابة تتولى التفاوض مع أصحاب الأعمال من أجل الوصول إلى اتفاق حول هذا الموضوع.

وفي عام 1923 نظم عمال “شركة الغزل الأهلية بكرموز” بالإسكندرية إضرابا، احتجاجا على قيام الشركة بتخفيض أجورهم. وقد أصدر اتحاد العمال منشورا وقعه السكرتير العام، الشيخ صفوان أبوالفتح، حيث تضمن المنشور هجوما على الرأسمالية ولجان التوفيق بصفة خاصة.

وترتيبا على تلك الصدامات والإضرابات العديدة وقتذاك صدر بيان نُشر بالأهرام وكوكب الشرق وغيرهما من الصحف، مفاده أن النقابة ليست وسيلة لمحاربة الشركات أو إثارة الشغب أو تهديد الأمن العام… ولا تتدخل النقابة في المنازعات السياسية أو الدينية.

شركة سباهي
شركة سباهي
**

تلاطمت آنذاك أيضا تجليات اتسعت إرهاصاتها في حقول أخرى من التعبير. حيث صدرت جريدة “العامل المصري الوفدية” ليطرح على صفحات الجريدة “عزيز مريهم” عضو مجلس الشيوخ الوفدي، اقتراحات لتنظيم الحركة العمالية في عام 1930. و”جريدة الجماهير” التي سجلت إضراب عمال شركة “سباهي” في عام 1947-1948. فضلا عن الدعوة لجمع التبرعات لشهداء إضرابات عمال “غزل المحلة”، وشجب استبداد شركة “الغزل السويسرية” بالإسكندرية، حيث برز شعار “يا عمال النسيج اتحدوا”.

طافت بي وقتها بعض مظاهر البهجة والغبطة التي تجلت في مواسم جني القطن وما تردد حينها من أغاني وأداءات شعبية وطقوس أخرى لازمت تلك الوقائع، فبرزت ظاهرة الأفراح التي عقدت بأرجاء البلدان المصرية وما شملها من صور أثيرة وفاتنة. ومن اللافت للذكر انبعاث نموذج “المنجد” وقوسه الذي يضرب تنف القطن المتطايرة في الهواء. وذلك في ظل جموع العائلات نساء صبايا وصبيه يحتلون ساحات الأسطح وأفنيه البيوت يركضون فوق المراتب والوسائد في صحبة الزغاريد والتهاليل والمرح.

اقرأ أيضا:

أحمد برهام يكتب: قراءة الإسكندرية

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر