«الإسكندر الأكبر»: محاضرة طه حسين في كلية الآداب عام 1924

كتب: د.محمد رمضان العرجة

«كان الإسكندر لما تولى الملك في العشرين من عمره سنة (336ق.م). وكان غريب الأطوار قوي الذكاء والإرادة وكان عنيف الخلق ويسرف في اللذة والسكر وكان في الوقت نفسه يونانيا متحضرا. ولم يعلم اليونان رجلا أعلم وأقوى من الإسكندر وإنما يؤخذ عليه بعض التطرف في القسوة. ولم يكن موته وهو في عنفوان الشباب إلا نتيجة شرهه في الطعام والشراب وانغماسه في اللهو!!».

هكذا تحدث طه حسين، مدرس التاريخ القديم بالجامعة المصرية، في محاضرته عن الإسكندر الأكبر عام 1924م، ولا عجب في ذلك وهو المعروف عنه أنه أستاذ أدب اللغة العربية بكلية الآداب. فقد تتلمذ على أيدي كبار الأساتذة المصريين والأجانب وهو طالبًا بالجامعة المصرية، ونذكر منهم الأستاذ نالينو في تاريخ أدب اللغة العربية، والأستاذ حفني بك ناصف الشيخ محمد المهدي في آداب اللغة العربية، والأستاذ ميلوني في تاريخ الشرق القديم، وحصل على درجة الدكتوراه وكان موضوع بحثه “ذكرى أبي العلاء”.

ثم أوفد إلى فرنسا مبعوثا على نفقة الجامعة، وهناك حصل من السوربون على درجة الدكتوراه ببحث عن “ابن خلدون وفلسفته الاجتماعية”. وبعد عودته من فرنسا عُين بالجامعة المصرية مدرسا للتاريخ اليوناني والروماني. وكما «يذكر «طه» في سيرته «الأيام» أنه «ألقى درسه فرضي الناس عنه، ورضي عنه هو أيضا، وكان تاريخ اليونان الموضوع الذي اختاره لدروسه في هذا العام».

***

من هنا حاول طه حسين بعد عودته من فرنسا أن يغرس في طلابه ضرورة الاهتمام بالتاريخ والتراث اليوناني والروماني، وبرغم ما لاقاه من اعتراض في البداية من البعض نتيجة لصعوبة الدراسة التي تعتمد في أساسها على اللغتين اليونانية واللاتينية من أجل التبحر في المصادر الأصلية لهذه الفترة المهمة. ومن أجل هذا قام طه حسين في بداياته بترجمة “نظام الأثينيين” لأرسطوطاليس، الذي تم اكتشاف مخطوطته الأصلية اليونانية في مصر عام 1891م. ثم نُقل إلى المتحف البريطاني ونُقل إلى الكثير من اللغات ومنها الإنجليزية والفرنسية. ولهذا عزم طه حسين على ترجمته للعربية وتدريسه كجزء من مقرر التاريخ القديم لطلاب الجامعة المصرية، فنجده يقول في مقدمة ترجمته:

“ولكني لا أبدأ في هذا الدرس حتى يملكني الخجل أن أفسر كتابًا استكشف في مصر، فأقرأ ترجمته الفرنسية أو الإنجليزية؛ لأن قراءة الأصل اليوناني غير ميسورة ولا نافعة، إذ ليس من طلبة الجامعة من ألم بهذه اللغة. فما لي لا أفسر لهم ترجمته العربية، إذا كان الشقاء قد قضى علينا ألا نعنى باللغات القديمة ولا نحفل بدرسها. أستطيع أن أترجم هذا الكتاب إلى العربية وأنا مدين لمصر بهذه الترجمة”.

وقد شملت محاضرات الدكتور طه حسين في التاريخ اليوناني والروماني بعض الموضوعات المهمة، والتي حاول فيها إحياء التراث اليوناني والروماني في صورة بسيطة على طلاب كلية الآداب بالجامعة المصرية، وكان منها محاضرة ألقاها في شهر يونيو عام 1924م عن: الإسكندر الأكبر وحركة الفتح في الشرق، وأعقبها بمحاضرة عن مصر في العصر اليوناني.

***

لخص هذه المحاضرة ونشرها في صحيفة الجامعة المصرية الطالب إسرائيل ولفنسون، والذي كان يشغل أمين صندوق الصحيفة. حيث بدأ حديثه عن نشأة الإسكندر، وفتح آسيا الصغرى وفتح الأقاليم الجنوبية.

ويستهل طه حسين محاضرته فيقول: “هل الزعماء والأبطال هم الذين يخلقون الحوادث أو أن الجماعات والحوادث هي التي توجد الزعماء وتخلق الأبطال؟ هذه مسألة غامضة لا تزال مطروحة على بساط البحث والجدل. والواقع أن لكل فريق من الفريقين وجهة نظر تكاد تكون صحيحة. نقول ذلك بمناسبة حياة (الإسكندر) فإننا نجد أن الحالة التي سبقته في بلاد اليونان وبلاد الفرس كانت من أهم أسباب نجاحه. كما يبدو أنه هو نفسه أوجد من الحوادث ما يملأ كثيرا من صفحات التاريخ”.

بهذه الكلمات وجدنا كيف نظر طه حسين للإسكندر الأكبر وشخصيته التي كانت ومازالت حديث المؤرخين والباحثين. بل أنه كان من بين (قادة الفكر) وهو كتاب طه حسين الذي صدر عام 1925م. حيث رأى طه حسين أن الحضارة اليونانية القديمة بمفكريها وفنانيها الكبار كانت الرافد الأهم بل ربما الأوحد للحضارة الأوربية الحديثة. فكيف يكون الإسكندر الأكبر السياسي والعسكري وأحد القادة البارزين أحد قواد الفكر؟

***

وهذا السؤال يجيب عليه طه حسين في كتابه فيقول: “لعلك تعجب حين تراني أحدثك عن الإسكندر الفاتح، في كتاب يبحث عن قادة الفكر. ولعلك تسأل ما بال قائد من قواد الجيوش يُخلط بهؤلاء الذين لم يتسلطوا إلا على العقول؟ ولكني قلت لك في أول هذا الفصل إن قيادة الفكر قد انتقلت من الشعر إلى الفلسفة. ثم من الفلسفة إلى السياسة، وكان الإسكندر هو الذي نقلها، أو قل هو الذي انتزعها من الفلسفة وأقرها للسياسة”.

ويحاول طه حسين في محاضرته أن يوضح أن المكانة التي وصل إليها هذا القائد العظيم والذي كان محاطا بالمؤامرات حتى من بني جلدته وقادته فيقول: “لم يكد الإسكندر يصبح ملكا حتى وضعت هذه المسألة موضع البحث في جيش الإسكندر. أما اليونان فانقسموا أقساما ومن هنا بدأت الصلة السيئة تظهر بين الإسكندر وقواده. ثم أخذ يسيء الظن بهؤلاء الزعماء ويقتل بعضهم ومازال يسير حتى دخل بلاد الهند. ولما رأى القواد أن أطماع الإسكندر لا تقف عند غاية. تذمر الجيش وعلت ضوضاؤهم. وقالوا إنه قد طالت علينا المسافة من مقدونيا حتى أصبحنا أكثر من بين أثينا وطيبة مائة مرة وألحوا عليه بالعودة. وأراد أن يذهب بطريق البحر إلى المحيط ثم إلى إسبانيا ثم إلى بلاد مقدونيا. ولكن الجيش أبى ذلك فناقشهم ثم جمعهم وألح عليهم فلم يقبلوا فقدم الضحايا لاستشارة الآلهة. فأشارت بالمودة فأمر الإسكندر بإقامة الهياكل الضخمة وعاد بطريق النهر وأرسل أمامه أحد قواده إلى بلاد الفرس. وسار الإسكندر في صحراء كاد ينهك فيها جيشه جوعا وعطشا. حتى اضطروا إلى ترك عدد عظيم في الطريق من الدواب ومعدات الجند. وفي هذه الرحلة عثر جنديًا على جرعة من الماء فقدمها للإسكندر. غير أن الإسكندر ألقاه على الأرض وقال «لا ارتوى وجندي يقتلهم الظمأ»”.

***

ويستمر الأستاذ في الحديث عن هذا الفاتح العظيم. وعندما جاء الحديث عن مصر والتي كانت تعاني الأمرين تحت الاحتلال الفارسي، فعندما دخلها الإسكندر استقبلوه استقبال الفاتحين فيقول: “أما مصر فلم تقاوم مطلقا لأنها كانت تكره الفرس واستقبله المصريون بكرامة. ثم قصد مدينة ممفيس ومنها ذهب إلى مكان مدينة الإسكندرية وأسس مدينة الإسكندرية ثم ذهب إلى الصحراء فزار معبد آمون وتوج نفسه فرعونا على مصر”. وامتد حديثه عن قواد الإسكندر الأكبر والعلاقة بين الأمتين اليونانية والمصرية عندما وصل الإسكندر الأكبر إلى مصر. وحاول إقامة سلطان المقدونيين فيها وكانت علاقة متينة جدا. فخُيل لليونان أن علاقتهم بالمصريين قديمة جدا ترجع إلى أول عهد التاريخ كما خُيل للمصريين كذلك في علاقة اليونان بهم.

وينهي محاضرته بالأيام الأخيرة لهذا القائد العظيم الذي كان لديه مشروعًا واسعًا في أن يجعل العالم القديم وحدة واحدة. فكان مشروعًا عالميًا ولكن القدر لم يمهله بوفاته المفاجئة في بابل. والتي دخل العالم القديم من بعده في عصر جديد هو العصر الهلنستي فيقول: “دخل الإسكندر مدينة بابل بعد أن قاسى من ضروب التعب. فانغمس هو وجنده في اللذات وتغالوا في التمتع بمختلف الطعام والشراب. ففي آخر فصل الربيع من سنة (323ق.م) أصيب بحمى فمات بعد عشرة أيام قبل أن يتم الحول الثالث والثلاثين من عمره. وقد حقق هذا الشاب كل ماروته الأساطير. وقد كان لأبيه الحق أن يقول له «يا بني التمس لك ملكا غير هذا فإن ملكي أضيق من أن يسعك»”.

                                                                       

مدرس بقسم التاريخ-كلية الآداب جامعة القاهرة.

اقرأ أيضا

ملف| طه حسين عميد الأدب العربي.. البصير الذي جاء ليقود خطانا إلى النور

«من رسائل العميد» إلى توفيق الحكيم: من أين يستمد الأدب المصري الحياة؟

رسالة إلى العميد في ذكراه

«من رسائل العميد» إلى‭ ‬هيكل باشا: في نقد «ثورة الأدب»

محمد حسنين هيكل في زيارة إلى العميد: صومعة عقل

أحمد بهاء الدين: زيارة لمكتبة طه حسين

طه حسين والجامعة.. ذكرى قيمة العميد

آمنة ومبروكة: بين ثورتين

«طه حسين»: معركة الخطوة الثانية

طه حسين مؤرخا.. ذكرى الجرأة المفتقدة

«طه حسين» في السينما والتليفزيون

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر