الإنسانية والبيئة: «أنت مش إنسان!»

هكذا يعاتبني صديقي أثناء حديثنا الحميمي، عندما أنتقده انتقادا لايعجبه، أو أخطئ خطئا اجتماعيا يدل على عدم كرمي وعدم صبري وعدم معرفتي بأصول التعامل. أي عدم “إنسانيتي”، وتأتي العبارة من تلك المواقف. لا يعاتبني صديقي شكا في انتمائي إلى الجنس البشري، ولكن شكا في انتمائي إلى أصالة المجتمع المصري. وبهذا المعنى لا يوجد فارق واضح بين الإنسانية والأصالة. يعد هذا التماثل من المجازات المعتادة في حديثنا اليومي، الذي يربط بين الإنسان الحقيقي والإنسان الصالح ربطا بديهيا.

**

يتضح هذا المجاز أيضا في الخطاب الشائع عن دور الإنسان في الدمار البيئي وانقراض الحياة فوق سطح الأرض. في تقرير يشبه آلاف التقارير المثيلة عن الدمار البيئي الكوكبي ومساهمة الإنسانية فيه، صدر منذ بضعة أشهر تحذيرا خطرا–ولكنه صار معتادا للأسف– عن تسارع انقراض الحيوانات البرية بسبب توسع الاستيطان البشري واستصلاح الأراضي الزراعية التي تقضي شيئا فشيئا على المناطق البيئية التي تسمح بازدهار التنوع الحيوي (biodiversity). وعلى الرغم من مجهود الجمعيات العديدة للحفاظ على البيئة والحيوانات البرية، يزعم التقرير أن يستحيل إيقاف الدمار البيئي الشامل لأنه مرتبط بزيادة عدد السكان الطبيعي وانتشار الجنس البشري، ويبدو أن الحل الوحيد لهذا الدمار هو انقراض البشر فجأةً.

من الصعب أن يتحقق هذا الحل الراديكالي، ولكن المجاز الذي يساوي بين أصالة الإنسان وانتمائه إلى الجنس البشري يسيء تصوير مسؤولية الإنسانية هنا. ويخفي الأسباب المادية خلف تدهور البيئة على الصعيد العالمي. في لغة التقارير البيئية، يبدو الإنسان حيوانا له غرائز طبيعية في الانتشار والقضاء على الأجناس الأخرى. مما يجعل الإنسان عموما عديم الإنسانية بالمعنى الأخلاقي. تساوي تلك الرؤية العامة للإنسان بين دور الاستهلاك الفردي في تدمير البيئة ودور الشركات الكبرى في تلوث الهواء والمياه والأرض بلا عقوبة، وبالتالي تتغاضى عن التباين البديهي بين تدمير “الإنسان” للبيئة وتدمير فصائل محددة وواضحة من الإنسانية لها.

**

عندما نقرأ تقارير عن تدهور حالة الكوكب، نتصور أن الإنسانية بأجمعها تتحمل مسؤولية الضرر البيئي الذي تتسبب فيه. بينما الواقع أن أساس المشكلة هي الرأسمالية الكبرى في الدول العظمى التي تدفع إلى حفر المزيد من آبار البترول والغاز مثلا، ثم تكريره ونقله واستهلاكه، كما تؤدي دورا موثقا في تقليص تقنيات وأبحاث وأنماط حياة تساهم في تشكيل بيئة صالحة لمعيشة الجميع. إذن يزعم الخطاب السائد عن تدهور البيئة العالمية أن الإنسان “مش إنسان” لأنه لا يمتلك الضمير الكافي للحفاظ على البيئة، ولكنه يدين الجميع بجرائم البعض.

كما يفترض هذا الخطاب أن الطبيعة شيء ثابت، لا يتغير ولا يتفاعل مع الإنسان، وكأن الإنسانية خربت الطبيعة دون الانتماء إليها، والرسالة الضمنية هي أن عودة الإنسان إلى الطبيعة الثابتة واجب أخلاقي ضروري للتوازن البيئي. ولكن واقع الأمر أن الإنسانية جزء لا يتجزأ من الطبيعة. وما نسميه اليوم بالـ”طبيعة” تتأثر بأفعال الإنسان (وليس فقط نتيجة التدهور والتدمير). بالتالي لا يمكن اعتبار مصير الطبيعة والإنسانية كمجريين لا علاقة لأحدهما بالآخر. كذلك “الحفاظ على البيئة” ليس المجاز الوحيد الصحيح، لأنه يفترض أننا نحافظ على شيء خارجنا ولا ننتمي إليه. قد يكون المجاز الأسلم “التحول مع البيئة”. أي القدرة على التواصل والتعامل والتأقلم مع التغييرات البشرية والبيئية المستمرة. والتي سنستمر فيها كنتيجة لأفعال الرأسمالية العالمية.

**

العائق الرئيسي في طريق هذا التحول هو الشركات الكبرى والدول العظمى، التي تحاول الحفاظ على الوضع الراهن (بما في ذلك الوضع البيئي الكارثي). لتحقيق أرباح أكبر ووضع سياسي أرقى، ولا تبالي بالتحولات الاجتماعية والبيئية اللازمة لاستمرار الإنسانية فوق سطح الأرض. فالإنسانية أو عدمها ليست السبب في انهيار البيئة، بل عدم المساواة بين البشر في إتاحة بيئة كريمة لمعيشة الجميع. الرأسمالية “مش إنسانية” بالطبع، فهي ماكينة لتحصيل الأرباح، وإذا أصبحت في يوم إنسانية. فيجب أن تتخلّى عن هاجس النمو المستمر وتراكم المال والاستثمار، وتعمل جديا على تطوير بيئة عادلة للإنسان والحيوان والنبات معا. باختصار، حل الأزمة البيئية ليس في انقراض الإنسان، ولكن في انقراض الرأسمالية بصورتها الحالية. والسؤال هو فقط: أيهما سيحدث الأول؟

اقرأ أيضا:

أوراق جدودنا: من أجل تاريخ جديد

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر