زيارة القرافة.. تراث شعبي يتغنى بالحياة

تحتشد النسوة في الأحياء الشعبية مع ميلاد صباح يوم العيد، ويتوجهن في سيارات أجرة (ميكروباص) صوب القرافة. يفضلن الاحتفال بالعيد مع من رحلوا، ترغب كل واحدة منهن أن “تونس” الراحلين، في طقس أكسب الجبانات المصرية طابعا خاصا. فعلى عكس الشائع كانت القرافة واحة لقاء بين الراحلين في صمت والباقين في صخب. ظلت الجبانة ساحة تجمع الأحياء والأموات على مدار قرون متعاقبة. لكن الآن يبدو أن رحلات الأحياء للجبانة تقارب على الانتهاء مع معاول الهدم الجارية بلا توقف، ومعها تنطوي الكثير من القصص التي خلدتها القرافة وحوتها بين جنباتها. فهنا في جبانات القاهرة تجد القصص التاريخية والشعبية التي تحتاج إلى عين خبير ليلتقطها ليكشف لنا عن هوية مكان امتزج بقصص المصريين وحكاويهم.

***

جبانات القاهرة كتاب عادات وطقوس مصرية تراكمت صفحاته على مدار قرون. فالكثير من القصص الشعبية والفلكلور القاهري تكون في القرافة أكثر من أي مكان آخر. هنا نجد الكثير من التفاعل الشعبي مع الديني والاجتماعي والاقتصادي، هنا يشع نور التدين الشعبي البسيط الذي لا يعرف إلا الحب، وممارسة الحياة بكل عشق. ففي القرافة وغيرها من الجبانات المحيطة بالقاهرة، عرف المصري كيف يوازن بين الحياة والموت، أن يعيش الحياة ويصاحب الموت. لذا نسج سيمفونية خاصة به في تفاصيل القرافة. فلا غرابة أن تجد احتفالات صاخبة بالحياة في قلب القرافة كما تذكر كتب التاريخ. ولا عجب أن ترى عينيك أسواق شعبية مكتظة بالمترددين وسط المقابر، بعدها قد ترى موالد تجمع مصريين من مختلف الأنحاء في قلب القرافة.

طقس زيارة المقابر في الأعياد عادة مصرية بامتياز، في كل مدينة مصرية تجد جبانة يزورها الأهل في الأعياد وأيام الجمعة. بهدف الجلوس بجوار الأحباب الذين رحلوا، وعبروا إلى العالم الآخر، عادة مصرية يأخذ فيها الحي بونس الميت. هذه الظاهرة المتأصلة في خلايا المصريين، تبدو واضحة في جلاء في جبانات القاهرة. الزيارة تتحول إلى طقس شبه مقدس يشارك فيه أبناء الأحياء الشعبية في القاهرة ومحيطها العمراني. حيث تحرص النسوة على توزيع الشريك، وهو نوع من أنواع المخبوزات التي تعد خصيصا للتوزيع على روح المتوفي. وهي واحدة من الطقوس التي تتميز بها القرافة المصرية على مدار تاريخها الذي يصل إلى 1400 عام. فالرحالة والمؤرخون تحدثوا عن ظاهرة زيارة النساء للمقابر في الأعياد منذ العصور الوسطى، وهي عادة استمرت للعصر الحديث كأحد ملامح الطقوس الشعبية التي ربطت بين المصريين والقرافة.

***

وعن سبب اهتمام المصريين بالقرافة، يقول الدكتور محمود محمد جاد في كتابه (سكنى المقابر في عاصمة مصر: نظرة عبر لعصور)، إن التصور الشعبي للمصريين خلق اعتقاد راسخ لديهم بأن “العون قد يأتي أحيانا من الموتى المقربين إلى آل رسول الله، والعارفين بالله والأسياد، وبعض كبار المشايخ. ولذلك فإنهم يرتبطون بهم، وينذرون لهم النذور، ويقدمونها لهم توخيا لرضاهم ومساعدتهم في قضاء حوائجهم الدنيوية. وفي حالة عدم قدرة هؤلاء الناس على ذلك. أي على نذر النذور وتقديمها لهؤلاء الأسياد والعارفين بالله، فإنهم يرسلون إليهم بالرسائل التي تحمل صيحات الاستجداء والرجاء بالمساعدة في تحقيق الأماني والرغبات الدنيوية”. وهو يشير بذلك إلى عادة إرسال الرسائل إلى ضريح الإمام الشافعي والذي خصص له عالم الاجتماع الرائد سيد عويس دراسة اجتماعية مهمة في بابها، من كل هذا التراث الشعبي تولدت عادة زيارة جبانات القاهرة.

عادة زيارة المقابر في أيام الأعياد والمناسبات، والجلوس إلى الأحبة الذين رحلوا، تولدت عنها حياة كاملة في القرافة، فعرفت الأخيرة الليالي الملاح. إذ تم تطويع بناء الأحواش التي تستقبل جثامين الموتى لكي تضم مساحة للأحياء، ففي الحوش تجد مكانا لمبيت أسرة الميت. إذ جرت العادة قديما على أن أبناء القاهرة كانوا يخرجون إلى الجبانات ويمضون ليلة الخميس ثم الجمعة في حضرة الأموات. هنا يكتسب مفهوم “الونس” طابعه الشعبي المحبب الذي ينسج حالة شديدة الخصوصية عند المصريين الذين كسروا الحاجز بين عالم الأموات والأحياء. فلم تعرف الجبانات مفهوم “مدينة الموتى” الاستشراقي، بل كانت دوما الجبانات مساحة تضج بالحياة الذي يكسب الموت معنى آخر آكثر حميمية، فلا يعود إلا باب نعبر منه ولا نفقد بعده عطر الأحباب.

تصوير: عبد العظيم فهمي
تصوير: عبد العظيم فهمي
***

“القرافة إحدى عجائب الدنيا”، هكذا يردد الباحث عبدالعظيم فهمي، مؤسس مبادرة سيرة القاهرة المعنية بتراث المدينة المادي وغير المادي. مقولة الرحالة الأندلسي ابن جبير الذي زار مصر في مفتتح العصر الأيوبي. ويضيف فهمي لـ”باب مصر”: “القرافة كانت ولا تزال واحدة من أهم المتنفسات لأهالي القاهرة. فهي نزهة أصيلة لهم وفسحة في الأعياد وأيام الجمعة، وهو طقس شعبي أصيل. فنظرة المصريين إلى الموت مختلفة ولها امتداد حضاري منذ أيام المصري القديم. وتعكس حالة من حالات القداسة للموت ما أدى إلى منتج حضاري، مثلا زيارة السنوية، كانت ولا تزال حدثا مقدسا. إذ يزور أهل المتوفي قبره في الذكرى السنوية لوفاته. ويجلسون في غرف ملحقة بالأحواش ومجهزة بكل وسائل الراحة والإعاشة”.

ويتابع فهمي: “هذه الروح تظهر بجلاء في كتابات المؤرخين والرحالة من غير المصريين. الذين زاروا الجبانات وسجلوا دهشتهم من أنماط الحياة التي تمتلئ بها القرافة. وهناك تجربة شخصية تؤكد استمرار هذه الروح. فخلال جولة في القرافة مع صديقة من مملكة البحرين، أخذتها الدهشة من مدى الاحتفاء بالموت كحالة في مقابر القاهرة وهي حالة لا تجدها في الخليج على حد وصفها. كذلك لاحظت أن سيارات الأجرة تأتي من الصعيد حاملة عشرات المحبين لزيارة الأولياء في القرافة وقرأة الفاتحة لكل أحد من آل البيت أو ولي أو عالم مشهور بالصلاح. ثم عندما تنتهي الجولة تعود السيارة الأجرة إلى الصعيد وتشمل الزيارة قبور شخصيات من نوعية ذي النون المصري أحد أوائل المتصوفين في التاريخ الإسلامي”.

***

يلفت عبدالعظيم فهمي النظر إلى عادة متأصلة في تاريخ القرافة وأخذت حكم الموروث الشعبي، عبر زيارة الأماكن المعروفة بإجابة الدعوة. فمن أجل هذه الأماكن تحديدا التي تضم قبور بعض آل البيت أو الصالحين أو العلماء الكبار، كتبت كتب المزارات الخاصة بجبانات القاهرة أساسا، في العصور الوسطى، أي أننا أمام تقليد عاش ويعيش معنا منذ أكثر من ألف سنة. إذ أصبحت أماكن بعينها معروفة بإجابة الدعوة مثل قبر السيدة نفيسة وغيرها من المشاهد المعروفة في القرافة. وهي عادة تم توارثها وانتشرت في العالم الإسلامي، وخلدتها كتب رحالة من بلاد فارس وبلاد المغرب والدولة العثمانية، والذين حرصوا على زيارة الجبانات مع المصريين طلبا لبركة الدعاء في هذه البقاع.

***
تصوير: عبد العظيم فهمي
تصوير: عبد العظيم فهمي

الطقوس الشعبية المصرية الصميمة لم تتوقف عند زيارات الأهالي لقبور ذويهم. بل أن القرافة تحولت إلى متنزهات لأهالي العاصمة المصرية على مدار العام يقبلون على زيارتها. وينسجون في شوارعها وطرقها حكايات شعبية تتعلق بموروث التدين الشعبي. إذ يذكر مؤسس مبادرة سيرة القاهرة، أن الكثير من حكاوي أهالي القاهرة ارتبطت بالقرافة. ومنها “زيارة السيدة نفيسة وكذلك البدء في مسار يتضمن زيارة عدد من الأولياء الأقل شأنا حول السيدة نفيسة، ومنهم السيدة جوهرة. كذلك زيارة سيدي مسلم السالمي المعروف باسم سيدي المصروع يشفي الأطفال من الصرع. كما توجد موالد شعبية لعدد من أولياء الجبانات. مثل مولد سيدي العفيفي بالمجاورين، مولد إسماعيل أبوضيف بجوار زاوية السادة المالكية، ومولد عبدالله المنوفي، وكلها يمكن الاستثمار فيها واستغلالها سياحيا”.

ويطرح فهمي رؤيته للاستفادة من جبانات القاهرة وتنميتها عبر الحافظ عليها أولا، ووقف كل مشاريع تتعلق بمحو وإزالة الجبانات. ثم العمل على استثمار الجوانب الفلكلورية في القرافة والتي يمكن أن تتحول لنقاط جذب سياحي مختلف الألوان. مثل استغلال الموالد بشكل فلكلوري كمهرجانات شعبية تتحول إلى مقاصد سياحية بذاتها. كما يمكن استغلال مسارات الزيارة لآل البيت والصالحين والأولياء في الترويج للسياحة الدينية. ويوضع أمام كل مشهد أو قبة أحد الأوصاف التي تركها الكثير من الرحالة المغاربة الذين حرصوا على عادة دينية تتمثل في زيارة القرافة المصرية أثناء ذهابهم لأداء مناسك الحج”.

***

هذه الرحلة التي رافقنا فيها الباحث في التراث القاهري، عبدالعظيم فهمي، في دروب القرافة العامرة، تكشف عن بعض جوانب تفرد جبانات القاهرة وثرائها الذي لا يحد. فهي تمتلك من الوجوه والطبقات الحضارية والتراثية والشعبية الكثير من الحكايات والمعتقدات والتجارب التي يشتبك فيها الاجتماعي مع الديني. لينتج من كل هذا نماذج تعبر عن مزاج المصريين وتجاربهم في التدين الشعبي الذي يحمل بصمات حضارية موغلة في القدم. هذا التراث غير المكتشف بعد بصورة كاملة، مهدد بالإندثار وأن نفقده إلى الأبد حال استمرار عمليات الهدم الجارية في الجبانات. وقتها سنفقد هذا التراث المتعدد والذي يمكن بقليل من التعقل الاستثمار فيه وتحقيق عوائد ضخمة شريطة الإبقاء عليه والمحافظة على ما فيه.

اقرا أيضا:

قبل الكارثة.. جرد أولى لـ مقابر القاهرة التراثية المهددة

«حوائط القرافة».. خبايا تاريخية تنتظر التنقيب

هشاشة القرافة.. لعنة التاريخ ورسائل الحكومة

أسفار الجبانة.. شهادات تاريخية تدين المحو الحكومي

الخطوط الذهبية.. روائع القرافة المنسية

الباب السحري.. القرافة مفتاح كتابة تاريخ مصر

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر