رائعتان لـ«بهاء طاهر» تنتظران السينما

في حوار مع السينمائي الإيراني الراحل عباس كياروستامي جرت وقائعه خلال مهرجان “مراكش” منذ حوالي ثماني سنوات، سألته عما يحدد الفن الجيد وكيف يمكن الوصول إلى معايير يعتد بها لتقييم الأعمال الفنية. فقال إن الزمن وحده هو الكفيل بتقييم الأعمال الفنية، وأنه عادة ما ينبغي أن ننتظر عدة عقود لنرى إذا ما كان العمل يحتفظ بقدرته على إثارة الإعجاب والدهشة أم لا.

لم أقتنع بالإجابة كثيرا يومها، ولكن، يوما بعد يوم، تتأكد لي صحة وجهة نظر كياروستامي. إذ يثبت الزمن أنه القادر، وحده، على إنصاف عمل ما، أو جرف عمل ما إلى مصارف النسيان!

تحفتان خالدتان

من بين أعمال الراحل بهاء طاهر، ومعظمها بديع، نال بعض حقه من القراءة والنقد والتحويل إلى مسلسلات. أتصور أن أكثر عملين يستحقان البقاء والقراءة من قبل أجيال اليوم والغد. وأكثرهما صلاحية للتحويل إلى أفلام سينمائية هما قصتا “بالأمس حلمت بك” و”أنا الملك جئت”.

قرأت المجموعة التي تحمل عنوان القصة الأولى ضمن “مختارات فصول”، التي كانت تصدرها الهيئة العامة للكتاب، وهي واحدة من أفضل السلاسل الأدبية على الاطلاق. من خلالها تعرفت على أعمال إبراهيم أصلان، محمد البساطي، محمد المخزنجي، محمد إبراهيم أبو سنة وغيرهم من جيل الستينيات الذي ظهر في الثمانينيات. القصة الثانية قرأتها على صفحات مجلة “إبداع” التي ولدت في الثمانينيات أيضا. ثم أعدت قراءتها ضمن المجموعة التي حملت اسمها وصدرت ضمن “مختارات فصول” أيضا.

وقعت في حب بهاء طاهر وأصلان والمخزنجي وكنت أحرص على تلقف أي عمل جديد لهم. كان لبهاء طاهر مجموعة سابقة على هاتين المجموعتين تحمل اسم “الخطوبة”. ثم قرأت رواياته المتوالية: “شرق النخيل” و”قالت ضحى”، و”خالتي صفية والدير” و”الحب في المنفى”. ورغم أنني أحببت معظمها، خاصة “قالت ضحى”، لكنني لم أنس أبدا ذلك الشعور الدافق الطاغي الذي انتابني عند قراءة “بالأمس حلمت بك” و”أنا الملك جئت”. وعندما توفي بهاء طاهر منذ يومين أعدت قراءة القصتين في ساعتين، ولدهشتي انتابني الشعور نفسه. وقد قرأت “بالأمس حلمت بك” لابنتي التي تبلغ من العمر أربعة عشر عاما، فتأثرت جدا، وهو شئ قلما يحدث لها، ولجيل اليوم، من القراءة، وخاصة قراءة الأدباء القدامى.

بهاء الوصف وكثافة الشعر

كنت أراهن أن هاتين القصتين تحديدا كتب لهما أن تبقيا ضمن روائع الأدب العربي والعالمي، وأنهما عابرتان للزمن، بل إنهما تكادان تخاطبان جيل اليوم، بعد ما يقرب من أربعة عقود على كتابتهما، أكثر مما كانتا تخاطبان جيل الثمانينيات!

لغة بهاء طاهر بهية، صافية كالماء الطاهر، بلا حواش أو ألفاظ مهجورة أو عبارات معقدة، تشبه دقة نجيب محفوظ مع شاعرية طه حسين، الوصف فيها قليل ولكنه موح. اقرأ، مثلا، وصفه لهبوط الثلج في “بالأمس حلمت بك”:

“بينما كنت في الأتوبيس بدأ الثلج فجأة. سقط في البداية مثل قصاصات عشوائية متطايرة من الورق الأبيض. ثم اصبح غزيرا وكثيفا وغلف العالم خارج الأتوبيس بستارة متحركة من نمنمة بيضاء بلا نهاية”.

الوصف هنا يمهد للشعور العام الذي يغمرك، مثل هذا الثلج الغامض، وأنت تقرأ القصة. ولا يختلف وصف الأشخاص عن وصف الطبيعة. فهو أيضا قليل ومركز وموح بالشخصية كلها في كلمات معدودة.

اقرأ الوصف التالي لشخصية مارتين في “أنا الملك جئت”، تلك الفتاة الأجنبية التي كاد بطل القصة الطبيب المصري فريد يتزوجها، قبل أن تصاب بمرض عقلي وتقضي حياتها في مصحة:

“لم يرحب الشيخ عبد الله بزواج فريد من فرنسية. ولما جاءت مارتين إلى القاهرة في شتاء سنة 1925 (نزلت في فندق شبرد وهناك قابلها الشيخ) ورأى وجهها البرىء كطفلة وتضرج وجنتيها بالخجل كلما وجه لها أحد سؤالا. ومحاولاتها الدائمة للتهرب بعينيها الخضراوين أن تلتقيا بعيني أحد، أسرت رقتها الشيخ عبدالله وقال لفريد على بركة الله”.

كأنك تشاهد فيلما

تحفل كل من “بالأمس حلمت بك” بالصور، كأنك تشاهد فيلما لا تقرأ رواية. يقال إن أنسب أنواع النصوص الأدبية صلاحية للتحويل إلى أفلام ليس الرواية، كما يعتقد، ولكن القصة القصيرة. وأعتقد أن أنسبها هو ذلك النوع الذي يطلق عليه “نوفيلا”، أو الرواية القصيرة، مركزة الأحداث والشخصيات والفكرة. ولا أفهم حتى الآن كيف لم يفكر سينمائي في تحويل أي من هاتين القصتين إلى فيلم. وأراهن أنهما على يد مخرج جيد صالحتان لصنع فيلمين عظيمين، يشكلان إضافة نوعية في تاريخ السينما المصرية ( يمكن أن نضيف إليهما “فساد الأمكنة” لصبري موسى).

عالم فريد من الواقع والحلم

تحفل كلا القصتان أيضا بالأحلام. يمكن أن نقول أن بهاء طاهر افتتح موجة الواقعية السحرية في العالم العربي، والتي جاءت مع فوز جابريل جارثيا ماركيز بجائزة نوبل 1982. يرسم بهاء طاهر عالما يقع بين الواقع والحلم بشكل لا مثيل له، يمكن مقارنته بأعمال بورخيس وفيرناندو بيسوا. وسواء كان المكان أوروبا الخضراء أو الصحراء الغربية. فهو يحول المكان إلى عالم فريد من نوعه يقع على تخوم الصحو والحلم، ويمتزج فيه الواقعي بالخيالي امتزاجا لا تكاد تتعرف فيه على الحدود الفاصلة بينهما.

هما قطعتان من الأدب النفيس، لا تشبهان أي شىء سوى نفسيهما. عندما تقرأهما، فكأنك ذهبت بالفعل إلى عالم آخر وحياة أخرى وسوف تتركان فيك أثرا لا ينمحي!

اقرأ أيضا:

يوسف إدريس عن بهاء طاهر: «وكأنه كلما لمس شيئا تحول إلى ذهب»

هالة جلال تكتب: رحلة بهاء طاهر

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر