هكذا يودعون عواماتهم: هل أصبح تراث مصر «النيلي» في خطر؟

أزيلت العوامات، فقدنا جزءا من تاريخ المدينة، وودع أصحاب العوامات مساكنهم. في محاولة لاستعادة الذكريات وكذلك الوقوف على الوضع الراهن حول ما يحدث للتراث خلال الفترة الحالية.. «باب مصر» يتحدث مع خبراء الآثار والتراث ممن عاشوا داخل هذه عوامات الكيت كات. إذ أجمعوا على أن تراث مصر بات في خطر.

قيمة العوامات التراثية

تحدث الدكتور محمد الكحلاوي، رئيس الاتحاد العربي للآثاريين العرب ونجل المغني الراحل محمد الكحلاوي، عن القيمة التراثية للعوامة. إذ عاش داخل عوامة مدة 25 عاما رفقة عائلته. ويقول: “كنا نملك عوامتين في شارع الجبلاية رقم 62 و64، باسم محمد الكحلاوي، واحدة منهم مخصصة مكتبًا لوالدي. وهذه العوامة كانت تحفة فنية ليس لها مثيل ولا نظير، لأنها كانت كلها بالصدف والآيات القرآنية. فالناس تتخيل العوامات جميعها كالتي رأوها في الأفلام، بينما الحقيقة تقول إن هذه العوامات وعوامة والدي كانت تعقد فيها وزارة”.

وتابع: هذه العوامة تحديدًا يمكن مشاهدتها في جميع أفلام محمد الكحلاوي. وقد كان الرئيس الراحل أنور السادات من الأصدقاء المقربين له. وكان يأتي إلينا داخل هذه العوامة، وعندما تولى السادات تنظيم منظمة المؤتمر الإسلامي، طلب  تأجير العوامة كي تصبح فندقًا للعلماء المدعوين للمؤتمر.

أراد السادات أن يشاهدوا هذه التحفة الفنية. وقد أجرها السادات من والدي لمدة سنة، ولم يدفع لنا أي أموال. وعندما طلب والدي من السادات العوامة كان قد ترك الإشراف على المنظمة. واسترجع والدي العوامة في النهاية وأخذها “مهلهلة”؛ وبالتالي رفض استلامها، وهم بدورهم باعوها لسيد رجب. وهي موضوعة حاليًا عند القرية الفرعونية وتستخدم في أنشطة سياحية.

ملتقى أهل الفن

يضيف: “أما العوامة الثانية فقد كنا نقيم داخلها كأسرة، ونتردد عليها دائمًا. فأجمل أيام حياتنا عشناها داخل هذه العوامة، وكان المترددون عليها هم الوزراء والباشوات وأمراء الخليج. وكان يزورنا كل هؤلاء.

كما أن أجمل ألحان بدوية وبيرم التونسي، وزكريا أحمد، ومحمد الكحلاوي كانت تُصنع في هذه العوامات. وكان ينضم إليهم الأدباء والمثقفين، مثل جليل البنداري، وأم كلثوم التي كانت تأتي لوالدي، وكانت سهراتها هي وبيرم التونسي وغيرهم داخلها، وكذلك عبدالمطلب، وعبدالغني السيد فقد كانوا يغنون داخلها لبعضهم البعض. فأم كلثوم مثلًا تغني “لأجل النبي”، وهكذا.

كنت شاهدًا على تلك الأحداث. وقد كانت تصور داخل العوامات الأفلام، لأنها كانت تمثل على نمط ما هو موجود في البوسفور بتركيا. وكنا نسميها وقتها “الدهبيات”. والمرسى عندنا كان يحوي أشجار التوت والمانجا.

وهذه العوامة حاليًا في موضع كازينو كليوباترا. وكانت المراكب وقتها تتحرك مثل الموجودة في فينيسا بإيطاليا. فتجد مركب محملة بالخضار، وأخرى بالفاكهة، وأخرى محملة بالطيور. فقد كانت هذه هي عيشتنا، وكنا نشتري من المراكب وكأننا نعيش داخل مدينة البندقية”.

تضييق مستمر

يقول الكحلاوي: “ما حدث بعدها أنه في إحدى المرات صباحًا وجدنا قرار من وزير الداخلية خالد محيي الدين، الذي كان بدوره يحب رياضة التجديف. اعترض على وجود العوامات. وقال إنها تمنع مصر من تنظيم سباقات دولية في النيل، بسبب أن مجرى النيل في منطقة العجوزة ضيق وحقدًا منه على الباشوات والبهوات”.

وتابع: أمروا بنقل العوامات لمنطقة الكيت كات. وكان لا يمكن بأي حال أن نذهب لهذه المنطقة واعترض الجميع. ورفض أصحاب العوامات فكرة الانتقال إلى الكيت كات، وأبي كان من ضمن هؤلاء.

وهنا جاء أبي واستطاع أخذ تصريح رسمي لوضع عوامتنا عند كوبري الجامعة. وبالفعل رست عوامتنا في تلك المنطقة، لكن ظلت المشاكل تلاحقنا عندما انتقلنا إلى هناك. وقرر والدي الانسحاب حيث رأى أن الوضع قد تغير رغم أن الدولة نقلتنا لمكان “أرقى” لكنه للأسف الشديد قرر بيع العوامة لتجار خشب. وخسرنا في النهاية عوامتنا بهذه الطريقة، وبسبب التضييق المستمر علينا.

شكوى رسمية لعدة جهات ضد قرار الإزالة
شكوى رسمية لعدة جهات ضد قرار الإزالة
استثمار التراث!

يرى الكحلاوي أن القيمة التراثية للأوطان تقاس دائمًا بالقيمة المعمارية الموجودة داخله. سواء قيمة معمارية متمثلة في المباني المعمارية أو المباني البحرية الموجودة داخل الوطن.

يقول: “أنا هنا أتحدث بصفتي رئيس المجلس العربي للآثاريين العرب. وأقول إن الحكومة المصرية للأسف الشديد تتعامل مع التراث بدون “وعي”، وكأنها تكيل بمكيالين. فالتراث لا يجب التعامل معهُ بمفهوم التطوير لكن ينبغي التعامل معه بمفهوم الحفاظ، والصيانة والإحياء.

لكن للأسف الحكومة لا تستخدم هذه المعاني التي ذكرتها. فهم ينتهجون سياسية “ادفع” تأخذ خدمة. وقد حولوا قطاعات مصر الثقافية لقطاعات استثمارية، وهذه نقطة خطيرة. فنحن إما أن نستثمر في التراث أو نستثمر من التراث. وهذه نقطة خطيرة فالاستثمار من التراث أمر خطير جدًا، لأن الموقع التراثي يجب تأهيله، وليس تغير وظيفته ليصبح في النهاية منتج سياحي أو استثماري. وهذه قضية قديمة حاولت الحكومات المتتابعة تنفيذها فمنذ زمن أرادوا تحويل منطقة باب العزب لموقع استثماري وقد تصدينا لهذا المخطط”.

ذاكرة أمة

ويستطرد: للأسف الشديد الحكومة تتعامل مع هذه العوامات بتلك الطريقة. فالعوامات حتى وإن كانت غير مصنفة أثر، لكنها “تراثية” تعبر عن واقع معماري تراثي يتم محوه. فأنا كنت أتمنى أن تظل باقية. وأن تُضم لجهاز التنسيق الحضاري. فإذا كانت الدولة تسمح بالسياحي والفندقي، فكيف لها ألا تسمح بالسكني؟ فهل يعقل أن نتهم السكني أنه يتسبب في التلوث. بينما السياحي لا يلوث النهر!

وتابع: أرى أن الحكومة تريد جني أموالا أكثر من خلال تحويل العوامات من سكني لتجاري، دون مراعاة لأي اعتبارات إنسانية. فنحن بتنا نزيل الأحياء من مساكنهم والأموات من مراقدهم، عندما قررنا هدم المقابر التراثية.

وأنا تحدثت مع دولة رئيس الوزراء من قبل وقلت له إن حدود القاهرة التاريخية يتم تغييرها اليوم بسبب ما يتم داخلها. لذلك نحن هنا أمام عملية طمس للتراث المعماري. فهذه العوامات عمرها يزيد عن الـ350 عامًا. وقد ذكرت في موسوعة وصف مصر وتم تشبيه مصر وقت الفيضان بالبندقية في إيطاليا.

لذلك المحافظة على الثلاثين عوامة المتبقيين كان يجب أن يتم. فهذه العوامات وصلت في بعض العصور لـ800 عوامة، فالتطوير بجب أن يتم داخل المدن الجديدة. لكن عندما نتعامل مع القاهرة كمدينة فيجب التعامل معها بحس تراثي، وعدم تغيير التراث ومعالمه.

وأرى أن وزارة الآثار والثقافة السبب في تدهور الوضع بهذا الشكل، فكل جهة تخلي مسؤوليتها. فوزارة الثقافة عندها الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، ووزارة الآثار أيضًا عندها إدارة المباني التاريخية. وكان يجب على هذه الوزارات أن تدافع على هذا التراث، لأن ما يجري هو محو لذاكرة أمة.

قرارات مجحفة!

أما الدكتورة سهير حواس، أستاذة العمارة والتصميم العمراني بقسم الهندسة المعمارية بجامعة القاهرة، تقول: “لجنة حصر المباني ذات الطراز المعماري المتميز المسجلة ضمن قانون رقم 144 لسنة 2006 في الجيزة كانت من المفترض أن تتولى تسجيل العوامات ضمن الجهاز القومي للتنسيق الحضاري. فهي مسؤولة عن عملية تسجيل المباني ذات القيمة المتميزة.

وتابعت: لا أعرف أسباب عدم تسجيل تلك العوامات، فلم يخطر ببال أحد أن يتم إزالتها في يوم من الأيام. لكن من المفترض أن تُخطر اللجنة قبل إزالة أي شيء -حتى وإن كانت غير مسجلة- لأنه يجب إرسال لجنة لمعاينة المبنى وأخذ رأيها. وهذا إجراء لم يتم أبدًا. فشاطئ النيل له خصوصيته، والعوامات غير مخالفة أصلًا. لكن هناك مشكلة إدارية فقط، فهي غير مهددة بالغرق ولا شيء من هذا القبيل؛ وبالتالي فالقرارات كانت مجحفة جدًا”.

تضيف حواس: العوامات يمكن ألا تكون تراثًا معماريًا مباشرًا؛ لكنها تراث اجتماعي وثقافي للمجتمع. بالإضافة إلى أنها تراث عمراني مهم، فهذه القرارات من المفترض أن يتم التشاور مع المجتمع المدني قبل أخذها وهي تمثل لي جزء مهم من ذكريات الطفولة. وقد عشت داخلها عام ونصف رفقة عائلتي. عندما أجر والدي عوامة، وولد أخي عمرو داخل العوامة.

فكنا نشتري السمك من الصيادين عندما كانوا يمرون بالقرب منا بمراكبهم. وكذلك لا أنسى أبدًا رائحة شجر المانجو، فكنا نعيش في شارع الجبلاية أمام النادي الأهلي؛ لذلك أنا حزينة جدًا عما يحدث.

تختتم حواس حديثها وتقول: عملية التعامل مع التراث في الوقت الراهن تتم بشكل خاطئ. فالرغبة في جني الموارد المالية طاغية على فكرة الحفاظ على التراث. وقد جرى تجاهل الحفاظ على التراث مقابل الرغبة في استثمار المواقع التراثية. والتراث لا يعامل هكذا، فالدفاع عنه والمحافظة عليه يتطلب “دفع” الأموال ولا ينتظر منه “جني” الأموال. فالعوامات كان من المفترض العناية بها مثل ما يحدث في باريس وأوروبا، لكننا للأسف ننظر للتراث وكأنه شيء دوني.

اقرأ أيضا

«ساكنو العوامات يستغيثون»: ماذا يحدث؟

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر