«أرشيف بيكيا»: رجاء التكرم بالتنبيه إلى اتخاذ الإجراء اللازم

في 4 مايو عام 1960، أرسل وزير الثقافة والإرشاد القومي ثروت عكاشة إلى وزارة الخزانة كشفا بثمن الآلات المستوردة في إطار مشروع “الصوت والضوء”، والتي كانت محتجزة في الجمارك إلى أن يتقدم وزير الخزانة بمشروع فتح اعتماد جديد يُسدد به الرسوم المفروضة على الآلات. كما سبق ذكره في مقال أرشيف بيكيا الأخير. بعد الإشارة إلى سياق المشروع، ينص عكاشة في الكشف على ثمن الآلات المستخدمة للضوء وللصوت وللإذاعة تحديدا. وتصل التكاليف الإجمالية إلى 812 ألف فرنك فرنسي قديم. وقد وافق الرئيس جمال عبدالناصر على إدراج تلك التكاليف تحت ميزانية الخطة الخمسية الأولى (1960-1965).

تبرز الوثيقة الفرق الكبير بين ثمن المعدات البصرية وثمن المعدات السمعية. فتتكلف معدات الضوء تقريبًا أربع أضعاف معدات الصوت (أي 432 ألف فرنك في مقابل 120 ألف فرنك). ويعكس هذا الفرق التباين الحسي الملحوظ بين السمع والبصر في رؤية صانعي العروض الفنية. سواءً عملوا في مجال الإخراج المسرحي أو الأوبرالي أو السينمائي. فدائما ما تذهب المكانة الأهم إلى الصورة، ورغم العمق التاريخي للثقافة السمعية وانتشارها عبر أجهزة الراديو مثلا. إلا أن العين تسود على جميع الحواس الأخرى في نظرة رجال دولة يوليو، الذين كَنّوا للصورة اهتماما كبيرا مقارنةً بالصوت، رغم انتشاره الجماهيري الأوسع. لست أدري إذا اختار ثروت عكاشة أن ينفق أقل على الصوت مقارنةً بالصورة. أو إذا كان حال السوق العالمي للمعدات السمعية البصرية يحتم تلك الأسعار. ولكن تسمح لنا الأرقام أن نطرح هذا السؤال حول علاقة الدولة بالصورة والصوت.

**

تشير الوثيقة أيضا إلى تبعية مصر التكنولوجية في مجال تصنيع المعدات الثقيلة، بما في ذلك المعدات السمعية البصرية. حيث لم تستطع الدولة أن توفر بنفسها أجهزة “الصوت والضوء” في هذه المرحلة المبكرة من تطورها الصناعي. رغم تشجيع الصناعات الثقيلة على نطاق واسع بعد اندلاع ثورة 1952. حينما تمكنت مصر من تصنيع بعض أجهزتها الميكانيكية مثل الثلاجات والسيارات والتلفزيونات. تعثرت الصناعات الثقيلة في مجملها نظرا لتكاليف المواد الأولية وتعقيد التصنيع نفسه (وإلى الآن، لا تستطيع الدولة أن تُصنع مثل هذه الآلات بعد تخليها التام عن دعم التصنيع القومي).

يستوقفني في هذه الوثيقة التعبير الإداري الذي يحفز به ثروت عكاشة نظيره في الخزانة على معاونة وزارة الثقافة والإرشاد القومي في مشاريعها، وهو “رجاء التكرم بالتنبيه إلى اتخاذ الإجراء اللازم”. يبدو التعبير ركيكا لأول وهلة، فهو يستبدل بالأفعال أسماء متتالية ومتكررة ومواربة: رجاء، التكرم، التنبيه، اتخاذ، الإجراء. يوحي هذا التعبير المعقد ببعض من ملامح الفرنسية الإدارية القديمة في الدولة المصرية. فمثلا استخدام عبارة “رجاءً” للترجي من قارئ الخطاب بدلا من أفعال مثل “أرجو” أو “يُرجى” يعادل التعبير الإداري الفرنسي “prière de”. وهو تعبير يأتي في صورة اسم وليس فعلا كما يعتاد الأمر في أغلب أنواع الكتابة العربية الفصيحة غير الإدارية.

رغم ركاكة التعبير أدبيا، إلا أنه واضح كامل الوضوح إداريا، فيرجو (رجاءً) الوزير ثروت عكاشة من نظيره أن يتفضل (التكرم) بإخطار (تنبيه) الموظفين المعنيين بالمعلومات التي وردت في الكشف. حتى يعملوا نحو تنفيذ الإعفاء (اتخاذ الإجراء) عن الرسوم الجمركية لآلات “الصوت والضوء” (وهو إجراء لازم حتى تمضي مشاريع الدولة في سلام وأمان). بدلا من الاستفاضة في شرح الآلية الإدارية التي يرجو منها عكاشة نتيجة محددة، يكتفي بهذا التعبير الوجيز رغم تعقيده.

**

ربما تبدو بعض أجزاء التعبير زائدة عن الحد اللازم. قد يقول عكاشة “رجاء التنبيه” بدلا من “رجاء التكرم بالتنبيه” مثلا. أو حتى “رجاء اتخاذ الإجراء اللازم” مباشرة دون التكرم بالتنبيه إليه. ولكن تعطينا تلك الكلمات “الإضافية” لمحات عن العلاقات الإدارية بين عكاشة ونظيره في الخزانة. ليس لعكاشة أي سلطة مباشرة في وزارة الخزانة، ولذلك يرجو من وزيرها “التكرم” باتخاذ الإجراء اللازم. فيعود اتخاذ الإجراء أولا وأخيرا إلى كرم نظيره برغم دعم المشروع من جهات عليا. ولا يستطيع عكاشة كذلك أن ينبه الموظفين المعنيين مباشرةً بتفاصيل طلبه. ولذلك فيرجو من نظيره أن يتكرم بتنبيههم بهذه المعلومات الهامة. إذن فلا يزيد التعبير عن حده في هذا السياق الإداري. فيرى عكاشة ضرورة استخدام جميع سبل الإقناع للتعامل مع السلطة المالية للدولة، حتى يتمكن من الإفراج عن آلات “الصوت والضوء”. ليس بوسع وزير الثقافة والإرشاد القومي أن يفرج عن آلات “الصوت والضوء” بالأمر المباشر. ولكنه ربما يستطيع أن يقنع وزير الخزانة بالتفضل بتنبيه الجهاز الإداري الذي يتحكم فيه باتخاذ مثل هذا الإجراء.

بعيدا عن تلك الخواطر اللغوية، توضح لنا وثيقة اليوم عدة مستويات لتحليل المستندات الأرشيفية، فالورقة الموضوعة أمام القارئ لا تحتوي فقط على بعض المعلومات بخصوص اجتماعات وزارة الخزانة أو ثمن آلات “الصوت والضوء”. بل توحي أيضا بالأهمية النسبية التي تتمتع بها المعدات الثقيلة – وتحديدا المعدات البصرية منها – في موازين الدولة. كما تُظهر العلاقات السياسية والاجتماعية بين الوزارات بعضها البعض ضمنيا. لا تقتصر قراءة الوثيقة على قراءة محتواها الحرفي فحسب، بل تتسع إلى قراءة السياق والعلاقات التي كانت جزءا منها أيضا.

اقرأ أيضا:

«أرشيف بيكيا»: تذكارات أعمال حكومة الثورة

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر