حوار| د. مهند فودة: التراث ليس رفاهية.. و«أنقذوا المنصورة» تقاوم النسيان بالتوثيق

في مدينة تُطاردها الخرائط العقارية، وتكاد تفقد ملامحها التي صنعتها قرون من التاريخ، ظهر صوت يقول: “كفى”. صوت لم يأتِ من مظاهرة أو حملة موسمية على مواقع التواصل، بل من داخل الشوارع نفسها، من قلب البيوت والشرفات، ومن نقوش صامتة تحكي مجدًا منسيًا.

منذ أكثر من عشر سنوات، قرر المهندس المعماري د. مهند فودة أن يقف في مواجهة هذا النسيان، لا كبطل، بل كمواطن يعشق مدينته. أطلق مبادرة «أنقذوا المنصورة» كمنارة تنير الوعي وتعيد للناس علاقتهم بمدينتهم. لم يكن الطرق سهلا، فالمعارك كانت كثيرة، والخذلان أكثر، لكن ما بقي هو هذا الإيمان بأن التراث ليس مجرد طراز معماري، بل هو شخصية مدينة كاملة ومرآة لوجدان أهلها.

في هذا الحوار، نصحبكم إلى قلب الحكاية… حيث الشغف بالمكان يلتقي بالإصرار على حمايته، وحيث تتحول الهندسة إلى رسالة، والصورة القديمة إلى شكل من أشكال المقاومة.

  • بداية، دكتور مهند، ما الظروف التي دفعتك لتأسيس مبادرة “أنقذوا المنصورة” في 2013؟

أسسنا المبادرة في أكتوبر 2013، وكانت الفكرة مستلهمة من موجة المبادرات المجتمعية التي ظهرت بعد ثورة 2011، لمواجهة التعديات على المباني التراثية في مصر. البداية كانت مع “أنقذوا الإسكندرية”، ثم بدأت الفكرة تنتشر في محافظات أخرى، ومن هنا قررنا إطلاق النسخة الخاصة بالمنصورة، خاصة أن المدينة تضم عددًا كبيرًا من المباني التراثية المتنوعة.

أما الانطلاقة الحقيقية للمبادرة فكانت في ديسمبر 2013، عقب تفجير مديرية أمن الدقهلية، الذي ألحق أضرارًا جسيمة بعدد من المباني التراثية المهمة، مثل مسرح المنصورة القومي، مسجد الصالح أيوب، دار بن لقمان، وكنيسة قديمة من القرن التاسع عشر. في تلك اللحظة، لعبت المبادرة دورًا جوهريًا في توثيق ما حدث، والتواصل مع الإعلام والسوشيال ميديا، لتتحول إلى صوت يُعرّف الناس بأهمية هذه المباني وقيمة الحفاظ عليها.

  • كيف تعمل المبادرة على توثيق المباني التراثية؟ وهل لديكم قاعدة بيانات منظمة؟

كنت عضوا في لجنة حصر المباني ذات الطابع المعماري المتميز بمحافظة الدقهلية لمدة 13 عامًا، وساهمت بشكل كبير في توثيق مباني المنصورة وغيرها من مدن المحافظة. في البداية، كانت البيانات ورقية، لكن حاليًا نعمل ضمن مشروع بحثي تابع لجامعة المنصورة، لإنشاء خريطة تفاعلية تشمل جميع المباني الموثقة، متضمنة تواريخها، صورها، وتفاصيلها المعمارية. وستكون هذه الخريطة متاحة للجمهور والمهتمين، في خطوة مهمة لجعل التراث أقرب إلى الناس.

  •  كيف يتم تقييم الخطر الواقع على المباني؟ وهل هناك تجاوب محلي وتطور في وعي الناس بالتراث؟

نقوم بالتوثيق عبر أرشيف صور يعود لسنوات، ما يمكننا من المقارنة ورصد التغييرات. وبصفتي متخصصًا ومعايشًا للمشهد منذ سنوات، أستطيع أحيانًا معرفة التعديلات من نظرة واحدة.

والأهم أن الناس أصبحوا شركاء في المبادرة: فالمواطنون الآن يصورون التعديات ويبلغوننا بها. الوعي فعلاً تطور بشكل ملحوظ، ودائمًا أقول: “كل ما الناس وعَت.. إحنا كسبنا كتير”.

وفي المنصورة تحديدًا، نحن محظوظون، فالمدينة صغيرة نسبيًا، وعدد مبانيها التراثية حوالي 150 فقط، مما يُسهل التدخل عند رصد تعدٍّ. لكن الاستجابة من المسؤولين غالبًا لا تحدث إلا بعد تسليط الضوء عبر الإعلام أو السوشيال ميديا، وليست استجابة مباشرة للأسف.

  •  هل هناك تعاون مع المدارس أو الجامعات أو مؤسسات المجتمع المدني لتعزيز الثقافة التراثية؟

جامعة المنصورة كان لها دور كبير جدًا. من خلال عملي كأستاذ مساعد بقسم الهندسة المعمارية، دائمًا ما نستخدم المباني التراثية كنماذج تطبيقية للطلاب، سواء في الرسم أو التوثيق المعماري أو التدريب الميداني. هذا يساعد الطلاب على التواصل المباشر مع التراث وفهم قيمته.

أما على مستوى الأحياء أو الجهات التنفيذية، فلا يوجد تعاون حقيقي، وغالبًا تأتي الاستجابات بعد الضغط المجتمعي والإعلامي.

  • كيف تتعاملون مع الملاك أو السكان الذين يرون أن الحفاظ على المباني عبء مالي أو بلا فائدة؟

قليل جدا من الملاك لديهم وعي بقيمة المبنى التراثي. الغالبية يرونه فرصة استثمارية يريدون التخلص منها لصالح مشروع تجاري أو عقاري. وهذا واقع مرير، وأساسه مشكلة تشريعية، ولا توجد حوافز حقيقية أو آليات تعويضية تشجع المالك على الحفاظ على المبنى. نحتاج لتدخل الدولة بوضع سياسات وقوانين واضحة تحمي التراث وتراعي حقوق الملاك في نفس الوقت.

  • ما أبرز النجاحات التي حققتها المبادرة خلال أكثر من 10 سنوات؟ وهل أنقذتم مبانٍ بالفعل؟

الحمد لله، أبرز الإنجازات الحفاظ على مسرح المنصورة القومي بعد قرار هدمه، وتحويله إلى دار أوبرا. ضغطنا إعلاميًا وبرلمانيًا حتى تم تخصيص ميزانية للترميم، واقتربنا من افتتاحه أخيرًا.

كما ساهمنا في استمرار ترميم قصر الشناوي، ووقف هدم مبانٍ مثل قصر الإسكندر في حي المختلط. وأقمنا فعاليات ثقافية للتعريف بهذه الأماكن، بالتعاون مع كيانات ثقافية مستقلة.

  • وفي المقابل، ما أكثر الخسائر التي واجهتكم؟ وكيف أثرت على معنوياتكم؟

مررنا بخسائر مؤلمة، منها هدم عدة مبانٍ في شارع المختلط، وتحويل مبانٍ تراثية لاستخدامات تجارية غير مناسبة. كذلك خسرنا حدائق عامة مهمة مثل حديقة الحيوان، وعروس النيل، والهابي لاند. لكن رغم ذلك، لا نشعر أبدًا بأن ما نقوم به غير مجدٍ. كل مكسب، ولو بسيط، يعيد لنا الطاقة للاستمرار.

  • أخيرًا، ما الذي تحتاجه مبادرة “أنقذوا المنصورة” اليوم لتصبح أكثر تأثيرًا واستدامة؟

نحتاج دعمًا حقيقيًا من المسؤولين، ووعيًا بأن المبادرة ليست مجرد جهة تنتقد، بل شريك يسعى لنفس الهدف: مدينة أجمل، وتاريخ محفوظ. وإذا تحققت هذه الشراكة، سننجح جميعا، والمدينة وستكون المدينة هي الرابح الأكبر.

اقرأ أيضا:

ملامح العيد تتغير في شوارع المنصورة : الباتيناج يحتل المدينة

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.