عن الميري.. وترابه

لا يخفى على أحد المثل السائر «إن فاتك الميري.. اتمرمغ في ترابه». ففي محفل الوظيفة يحمل المرء “رتبة” أميرية تجهزه للانتساب لطائفة “الأفندية”. ولذا ظل التعليم بمستوياته العديدة والمتنوعة – والذي ناشدته الأغلبية في عموم القطر المصري- يمثل دربا طويلا تهنأ في نهايته بسلك الوظيفة أو تنتسب في نهايته أيضا بدولاب “التعطل والبطالة”.

وفي ظل عقود وعهود مختلفة مثلت الوظيفة امتيازا اجتماعيا، يبث لصاحبه إحساسا بالستر والسكينة والصعود الاجتماعي ويسمه بالرفعة والإجلال. فاكتسابها يُكسِب صاحبها الطمأنينة والنعيم. وفقدانها يماثل الجحيم.

فضلا عن ذلك، صار الموظف العمومي لدى فئات اجتماعية أخرى، ممثلا للحكومة أو الدولة أو تعبيرا عن الوجاهة الاجتماعية، ومن ثَم مثَّل خطاب “التوصية” وشرط “الصلة” الاجتماعية، ركنا جوهريا من أركان الالتحاق بوظيفة عمومية. لذلك احتلت شخصية الموظف مساحة واسعة من المشهد الفني، السينما، والمسرح مرورا بالمغنى ووسائط أخرى من الثقافة الأدبية والفنية.

مونولوج الفنان “محمود شكوكو” الشهير:

مربوط على الدرجة الثامنة.. والناس درجات

ومرشح آخذ التاسعة.. غير العلاوات.

***

فضلا عن روايات “نجيب محفوظ” والتي جسّد فيها نموذج الموظف أحمد عاكف في “خان الخليلي” وعثمان بيومي في “حضرة المحترم”، وفي السينما كان عماد حمدي في “أم العروسة”، وزكي رستم “الكاتب” في “معلش يا زهر”.

غير أن ثمة عواصف وأنواء عصفت بالوظيفة في أزمنة الكوارث والأزمات السياسية والاقتصادية الطاحنة. تحديدا إبان الحرب العظمى والحرب العالمية الثانية، فلم تعد “مفخرة” لدى الموظف العمومي بل صارت “مسخرة” في ظل تردي أحوال المعيشة. ولم تعد علاوة الغلاء ذات جدوى.

ولم تعبأ الحكومة بشكوى الموظف الفصيح الذي عاش على الحافة. حيث كاد أن يفقد قوت يومه بعد أن أفقده تضخم الجهاز الحكومي وظيفته، فكد في شَغل وظيفة أخرى مجاورة لوظيفته، ولأن الموظف عاش حياة نمطية ولم تجذبه ثقافة المغامرة. فقد أحجم عن الانخراط في الأعمال الحرة.

تلك الأعاصير التي هزت منصة “حضرة المحترم” أسفرت عن انتشار عديد من الأوبئة الاجتماعية شملت عموم المجتمع المصري آنذاك. حيث تبارت الصحف في اجترارها، ترتيبا على ذلك نشأت وذاعت عديد من الجمعيات والروابط المعينة بمكافحة تلك المفاسد كجمعية “منع المسكرات” و”جمعية التسلح الخلقي”…. إلخ.

***

وفي هذا السياق، غابت لافتة “وظائف خالية” للبرهنة على أننا لسنا “بلد بتاعت شهادات”.

وفي ذات الوقت تشكلت روابط وجمعيات وأشكال نقابية أخرى، تجاهد نحو الظفر بحقوق المتعلمين والموظفين. ففي عام 1936 تكونت “الجمعية الأهلية للباحثين عن العمل”، شعارها “نريد أن نعمل” علاوة على “نادي موظفي الحكومة”، و”نقابة موظفي الحكومة المصرية العامة”، و”رابطة الإصلاح الاجتماعي”، و”جمعية خريجي المعاهد التجارية”، و”الجمعية المصرية لخريجات الجامعات المصرية”، وكذلك كانت أيضا مجلة “الموظف”.

وقتئذٍ، هرعت أسراب هائلة من المتعطلين الحالمين بالوظيفة، لاهثة نحو مكاتب الإعلان والنشر. مؤسسة الوظائف والأعمال والتي كان شعارها “ما استحق أن يُولَد من عاش لنفسه فقط”. إشراف الأديب عزت حماد منصور و”مشروع التعاون الفكري الفني” و”رسالة النقد الفني.. سينما.. مسرح.. إذاعة.. فنون” إشراف الأديب عزت حماد منصور أيضا، وصاحب مؤلفات “أعلام الحب عند العرب” و”مع أبطال الإسلام” وشاعرا في “ليالي حماد” و”من أوتار الزمن ومرآة الجيل”، فكان يكتب في كبريات الصحف والمجلات سواء باسمه أو بأسماء مستعارة (أديب القلوب – سجينة التقاليد – راهبة الفكر).

وفي العام 1962 تبعث دار المعارف بمصر (شفيق نجيب متري وشركاه) إلى الأديب عزت حماد منصور بخطاب مفاده إعادة أصول كتابة “أهل الهوى” لارتباط الدار بأعمال كثيرة يتطلب إنجازها وقتا طويلا.

***

ومن اللافت للانتباه أن ظاهرة البطالة تكاثرت في المدن الكبرى وتركزت تحديدا في العاصمة.. لذا نرى تهافت جمهرة العاطلين على مكاتب التوظيف، رجاء أن تنال مكانا ومكانةً في ديوان الوظيفة. وطمعا في وصايا عزت حماد منصور “لك حظ سعيد لو راسلت ص.ب 2271 مصر”. فانهالت الخطابات الهائلة تخطب ود الوظيفة.

القاهرة في 25 أغسطس 1949

جناب المحترم مدير الشركة رقم 2271 ص.ب القاهرة تحية واحتراما وبعد.. ردا على إعلانكم بأهرام اليوم – أقدم لجنابكم اسمي محمد أحمد خليفة – المصري الجنسية وعمري 28 سنة. وقد أمضيت أربعة أعوام بمدارس التجارة المتوسطة بالظاهر لغاية السنة الثالثة.

وقد خدمت بالجيش البريطاني بوظيفة كاتب. وأجيد اللغات الإنجليزية والفرنسية والآلات الكاتبة، علاوة على المراسلات وإمساك الدفاتر والترجمة، ولي فراغ من الوقت للعمل من الصباح للظهر، فألتمس من جنابكم الكريم قبول طلبي.

على أمل أن أحظى بعطفكم بالتعيين.

أرجو أن تتكرموا بقبول فائق الاحترام.

خادمكم المطيع

أحمد محمد أحمد خليفة

16 شارع محمد قدري باشا

السيدة زينب

القاهرة

***

 

حضرة المحترم الأستاذ الفاضل

الاسم: الآنسة روحية محمد هلال

المؤهلات: حاصلة على دبلوم شهادة التربية النسوية ودبلوم معهد الزائرات حصلت عليه 1953 ونظرا لأن التعيينات موقوفة وقرأت النشرة في الأهرام.

السن: 18 سنة

العنوان: شارع درب سعادة – المنجلة بباب الخلق.

***

أخي عزت بك

بعد التحية والأشواق

لحسن الحظ كان يشرفني بزيارته الأستاذ أحمد رمزي أفندي الموظف بالجمعية الزراعية الملكية بقسم الأسمدة وهو قريبي وله من المواهب التمثيلية مالا حصر له، ورجائي التكرم باتخاذ اللازم في إعداده للشاشة، فضلا عن أن حضرته كان بفرقة رمسيس (يوسف وهبي بك).

أملي أن تكسبوه في صف السينما.

مع قبول عظيم شكري…

المخلص

أنور عبد المجيد

مهندس زراعي

شارع عبادة بن الصامت نمرة 12 بحديقة السادات.

***

حضرة صاحب العزة المحترم

مقدمه فهيم أحمد أسعد، أحد رؤساء بالأموال المقررة بالمالية سابقا، اشتغل بالأعمال الحسابية والكتابة الفنية والتفتيش وضبط حوادث اختلاس وتزوير بالمجالس المحلية وغيرها، والآن بالمعاش إلا أن صحتي جيدة ونظري ولله الحمد سليم، ولازلت عارفا للغة الإنجليزية وأرغب في الشغل.

فإذا تكرمتم بإسناد عملا لائقا إلى بفضل الله سأكون محل ثقتكم، فألتمس الإفادة وأرجو الإجابة عن الوظيفة والمرتب ومحل العمل (وطيه الصورة).

وتفضلوا بقبول فائق الاحترام

فهيم أسعد

28 أغسطس 1949

منزل 44 شارع المنيل بجزيرة الروضة بمصر.

اقرأ أيضا:

متاهة الخيال

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر