«سلام».. من نصوص جمال الغيطاني

سلام لزرع البلاد والظلال التى تفرشها الأشجار والأغصان وكل مورق وارف

سلام لهديل اليمام، وترنيمة القمرى، والظلال قبل الأصول، لساعات العصاري، وغيوم الشتاء، والسدى واللحمة، والعجين عندما يفور، والنهر إذ يسرى.سلام.

الشجر:

سلام للنخيل فى بر مصر، خاصة فى الصعيد. ما من شجرة تثير عندى الهيبة مثل النخيل، تمنحني النخلة معنى الثبات، لم أر نخلة تميل مع الريح مهما كانت العاصفة. النخلة أصل المسلة والمسلة إشارة توحيد إلى اللامدى، إلى لب الوجود، ومنها جاء البرج والمئذنة. ورث أبي رحمه الله أكثر من مائة نخلة، كان في طفولتي يصحبني. دائمًا يده في يدي، خلال إقامتنا في جهينة يطوف بي، لم يكن نخيله في مكان واحد، إنما موزعة هنا وهناك. كان يعرف مواضعها. يشير إلى نخلة بعينها، ويقول لى «اعرف مكان عمتك». في الموروث أن الله خلق النخلة من فضلة طين بقيت بعد أن خلق الإنسان، للأسف تاه مني نخيل أبي كله.

للنخيل. لأشجار الجميز، لأم الشعور التي تميل لتغمس أغصانها في الترع الحاملة للمياه، لم أعرف هذا المشهد إلا فى مصر، شجرة الجميز راسخة المصرية، من أغرب ما استوقفني في الفن المصرى القديم. هذا المشهد الفذ في مقبرة تحتمس الثالث. الملك يرضع من شجرة. لهذا الفنان المجهول الذى رسم أجمل نقوش ورسوم مصرية في تاريخ الإنسانية.

سلام لهذا الفنان المجهول الذى رسم مقبرة سنجم رع. ربما هو سنجم رع نفسه، فالمقبرة تقع في دير المدينة، القرية الخاصة بالفنانين الذين رسموا هذه الكنوز الفنية. وقد وصلتنا القرية سليمة، بمنازلها ومقابرها، ومعبدها البطلمي. في مقبرة سنجم رع، رسم غريب، إذ تخرج الربة حتحور، رمز الخصوبة والأنوثة، من جذع شجرة جميز، رمز لوحدة الوجود، لتداخل عناصره لأنسنة الأشياء. فالأشجار خاصة تحزن وتغضب وترضى، كان أبي يطلب مني أن أنطق السلام قبل الاقتراب، ويؤكد لي الخال الأبنودي أن أشجار المانجو في بيته لا تثمر إلا إذا مر قربها ولمسها بحنان، وأسبغ عليها الرضا. للحنان وللحنين وللرضا والسكينة. لزرع البلاد والظلال التي تفرشها الأشجار والأغصان وكل مورق وارف، سلام للروح وللريحان وجنة نعيم.

الأماكن الحميمة:

رغم الطواف بالدنيا إلا أن مصر تظل المركز بكل مكوناتها، البؤرة في القاهرة القديمة، سلام للنواصي لواجهات المساجد، للممرات المؤدية، للعمارة المصرية خصوصيتها. فلابد من ارتباطها بالكون اللانهائي، ذروة الهرم نقطة ينتهي عندها المرئي ويبدأ اللامرئي، المآذن سليلة المسلة، كل منهما إشارة للواحد سبحانه وتعالى. كذلك الأبراج، العمارة في مصر ضد العدم، ضد النسيان، لذلك تحتاج إلى فهم خاص لإدراك مفاتيحها وأسرارها. وقد أمضيت عمري أتجول فيها وأتأمل، سواء كانت فرعونية أو قبطية أو إسلامية أو نوبية أو واحاتية «الواحات»، سلام لقرية الأقصر في الواحات الداخلة التي لا مثيل لها ولا قرين لكنها مجهولة، لإيوان القبلة في السلطان حسن، للزجاج المعشق بالجبس في مسجد قايتباى وقجماس الإسحاقي، أما الكنيسة المعلقة فلرمزية بنائها السلام والإعجاب. من يخطر له في البشرية بناء معبد ديني على فراغ، على هيئة سفينة.

سلام لقبة قلاوون التى كنت أتمنى أن أفض أسرارها، وأحكى للمشاهد رموزها، ما من خط فيها إلا وله معنى، وما من نقش إلا خلفه ما يملأ كتابًا للحكمة. لمحرابها الذى لخص الكون بما فيه، لأطياف الضوء الملونة التي تلامس الجدران مع حركة الشمس، بعضها لا يبقى إلا لثوان. ومنها ما يحيرني أنا الخبير بالألوان وصياغتها، سلام لمآذن القاهرة، ما من واحدة تشبه الأخرى، سلام لواجهة الأقمر التي تثير في الشجن، ولتواضع مسجد سيدى مرزوق، وللفنان المجهول الذي رسم الأشجار على واجهة مدخل الأزهر، ولمن لا أعرفهم من الخطاطين، الذين كتبوا القرآن وهم يتعبدون. للأماكن الحميمة في الوطن والتي ألوذ بكل منها في غربتى عبر الذاكرة وأأتنس وأشجو وألتمس الأمان.

للموسيقى:

لم أرتوِ بعد من الموسيقى. أول ما عرفت منها أنغام الربابة القديمة. يعزفها شاعر يقتات من أنغامها فى أسواق جهينة الموزعة على النواحى وأيام الأسبوع، من المذياع الوحيد في الحارة الذى كان يمتلكه زوج الست روحية. تخللت الأنغام وجودي كله، تبعت ما يأتينىى منها عبر الأثير، وانتظمت مشاعري حول المقامات والإيقاعات، انتظمت الدوائر داخلي، المركز منها الموسيقى العربية. سلام لمقام الصبا أقربها إلى روحي، سلام إلى نهاوند، والمقام النادر زنجران، سلام لسماعي رصد لمحمد القصبجي العبقري الذي لا أعرف كيف لزم الصمت بعد أن أبدع رائعته «رق الحبيب» أهداني صاحبي تسجيلًا نادرًا لغناء أم كلثوم لها عام اثنين وخمسين بلغت فيه الذرا الكونية. أسمعه أينما توجهت وأحتفظ به في وسائط شتى، آخرها ذلك الجهاز العجيب الغريب، أخف وأرق من علبة السجائر وعليه إحدى عشرة سنة من الموسيقى.

***

هذا بعض من مكتبتي الموسيقية التي جمعتها من كل بلد وبعضها لم يعد له وجود سياسي على الخريطة، سلام لمقطوعات محمد عبدالوهاب الموسيقية التي لملمتها من هنا وهناك. فلم يصدر لها شريط خاص واعتبرها من مفاتيح الروح المصرية، سلام للشيخ سلامة حجازى، لعبده الحامولي، لمحمد عثمان، لمحمود الشريف، للشيخ زكريا أحمد، للشيخ إمام الذى كانت عبقريته تتجلى في الأدوار القديمة. وليس في الغناء السياسي الذى اشتهر به، سلام للشيخ محمود صبح، لعبداللطيف البنا، لصباح فخري وصبري مدلل ومحمد خيري من حلب، للحاج عبدالكريم الريس من فاس، الذي صان الموسيقى الأندلسية في المغرب وكان نعم الصديق. لمحمد باجدوب صاحب الصوت الجميل الرائع والذي أهداني شهادة تكريم فى لحظة نادرة احتواني خلالها أهل مراكش بمحبة وفيض.

سلام لأصحابي هناك جعفر الكنسوسي، وحبيب السمرقندي وثريا إقبال ولأرواح الصالحين سيدى السبتي، والجزولي وعياض، وكل الصالحين. للعازفين والمنشدين الذين أنشدوا نوبة العشاق لمدة سبع ساعات من أجلي. واختتموها مع شروق الشمس تحت مئذنة الكتبية. لمن تبقى في صعيد مصر من الحفظة الوارثين، الحاج سيد الضوي، الحاج أحمد التوني، الحاج ياسين التهامي، الحاج أحمد برين، ومن سبقهم ومن يلحق بهم، وبمددهم تفيض روحي بأنغام الشيخ سيد درويش وعزف سامي الشوا أمهر من أمسك بالكمان، وعبده داغر، ومحمد عبده صالح وجورج ميشيل وعبدالحليم نويرة وثروت عكاشة. الذي أنشأ أول قاعة موسيقى في الشرق الأوسط، وفيها استمعت مباشرة إلى الموسيقيين والمطربين الأتراك عام تسعة وستين. وكنت تعرفت على هذه الموسيقى عبر المذياع فى أوائل الستينيات عندما لفت نظرى لها الأديب محمود البدوي، وبعد ما يقارب نصف القرن صرت عارفًا بها وللأكابر من موسيقييها وعازفيها.

أمام مسجد السلطان حسن. تصوير: نبيل بطرس
أمام مسجد السلطان حسن. تصوير: نبيل بطرس
***

سلام لجميل بك الطنبورى ولتاتيوس أفندي ولنور الدين سلجوك، والأستاذ نفزاد وللأصوات الجميلة التى أشجتني وترافقني أمل سايين ونور الدين وموزين سونار وعائشة طاس. رغم ما سمعته من الموسيقى الإيرانية، وسائر أنغام آسيا الوسطى. المنطقة الأشد إثارة لخيالي وربما السبب ألف ليلة وليلة، للبعيد منزلة خاصة في القلب والفؤاد.

سلام لأمهر من عزف على السينار «آلة وترية إيرانية» حسن على زادة، وجلال ذو الفنون، وصديقي العزيز داريوش اطلاعي. سلامي لأصوات حميرا وكوكوش وأولئك الذين لا أعرفهم يتوجهون إلى الله تعالى بالدعاء بعد صلاة الفجر من الإذاعات الناطقة بالعربية والفارسية. اللغة التي كنت أتمنى أن أتعلمها لجمال إيقاعها ولموسيقاها، سلام للموسيقى الصينية ورباعيات بيتهوفن الوترية والمؤثرة لتشايكوفسكى. ولكل ما أحببت من موسيقى العالم، سلام سلام لصاحبة الصوت الدرى، الكوكبى، اللألاء ليلى مراد.

سلام بوسع الكون للشيخ محمد رفعت، لمسجد مصطفى فاضل وأركانه لأجمل من قرأ القرآن الكريم. والذي أخبرني والدي أن ما نسمعه من تسجيلاته ليس إلا إشارة لصوت لم يُخلق مثيل له. سلام للشيخ مصطفى إسماعيل، للشيخ طه الفشني للشيخ على محمود، للشيخ البنا، وغير هؤلاء. للطيور المجهولة التى مازلت أسمع أصواتها في خلفية آذان الشيخ محمد رفعت، للأصوات التي قرأت القرآن وأنشدت المدائح. تلك التي أثرت سمعي وتلك التى لم أعرفها. لما يصدر عن الكون من أنغام، لموسيقى النجوم، الكواكب الهائمة، المجرات في حركتها. فكل حركة لها موسيقاها، للموسيقى التي لم تبلغني بعد حتى وإن لم أعرفها.

سلام.. سلام

سلام لمذاق الأشياء، لما نجا من تغييرات الدكتور يوسف والي للزراعة المصرية بعد أن أدخل فيها الغريب عنها. وما يخالف مذاقاتها، سلام لبقايا التوت وثمار أشجار الدوم والحرنكش والنبق والخبز البلدى لحظة خروجه ساخنًا من الفرن ولقائه بالملوخية الخضراء، أو الفول المحوج. لمن اخترع الطعمية، كباب الفقراء، والذى سطا عليه لصوص الذاكرة، فأصبحت تعرف في العالم بالفلافل الإسرائيلية.

سلام للخبز المصري الذي تقارب أنواعه الألف. الشعب الوحيد في العالم الذي يقدس الخبز ويسميه «العيش» أي الحياة. ويتعلم أطفاله أن يبوسوا اللقمة ويضعوها بجوار الجدار. للفايش وللعيش الشمسي وللأرغفة الثمانية الباقية حتى الآن ومعروضة في متحف تورينو.  لكل شىء في مصر مذاقه الخاص، لشجرة البلسان التي انقرضت وأنواع الأسماك التي اختفت لأننا لم نعد نحترم النهر ولوثناه. للنسائم، وميل الشجر مع الريح، والهواء البحري. للسحب في الشتاء، والأصائل ومطالع النهار ورائحة الطين، وكل ما بثه الإنسان من زرع وما أخرجه من ضرع وما شيده فوق الأرض متحديًا العدم والنسيان.

للطيور:

سلام للطيور وعشقي لها أصيل. ضيعتها المدن منا. في الصحراء أتأمل الأسراب المهاجرة، استفسر عن أنواعها عما يعود منها وعما يفنى بشباك الصيادين أو طلقات الإنسان. لجزر البحر الأحمر، ولألوان المياه في الأغوار العميقة، ولانحناءة الميناء الشرقي. ولسان بورتوفيق وإطلالة بورسعيد على البحر والحلواني الذي أتقن صناعة الهريسة «أبوستة» فى دمياط ورحل مع سره الدفين، لم يورثه لأحد. للتضاريس الجبلية وحركة الرمال، وتوالى الليل والنهار.

سلام لكل من سعى بالعلم والحكمة من أمحتب إلى نجيب محفوظ وأبنائه وأحفاده. لكل ما عرفته من أجوبة، ومعذرة لأنني لم أجتهد في الحصول على ما يلبي أسئلتي. ولأن بعضها سيظل بدون جواب، سلام لروح وريحان وجنة نعيم، للسدى واللحمة للظلال ولكافة الأصول. ولكل لحظة تحل أو تمضي بالوطن الذى توحدت به، فمهما طاف الإنسان بالعالم. مهما رحل يتلخص وجوده عند الخطوط الفاصلة في الكيان الذي جاء فيه ونما عبره. للفرات الهائمة، ولكل حىٍّ، ولكل من عبر، سلام للمن والسلوى.

كتب جمال الغيطانى هذا النص البديع قبل إجراء عملية جراحية كتبه كأنه يودع به العالم، ويرثى عالمه الحميم.

اقرأ أيضا:

ملف| جمال الغيطاني.. مقاوما الفناء

جمال الغيطاني.. استئصال ذاكرة المدينة

كان جمال الغيطاني يجيد قراءة الأثر من أحجاره

قاهرة جمال الغيطاني.. مدينة بنفس صوفي

جمال الغيطاني.. معاركه وكلماته

الأبدية … من نصوص جمال الغيطاني

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر