عين الأعيان| “المنصوري”.. المثقف الاشتراكي وعزلته في الفيوم نصف قرن

لا يعلم غالبية الذين يعيشون بـ”عزبة المدير” التابعة لمركز الشواشنة، أن سبب تسمية قريتهم بهذا الاسم ترجع لـ”مصطفي حسنين المنصوري”، والذي شغل منصب مدير التعليم بمديرية الفيوم عام 1927، وعاش بالفيوم منذ عام 1925حتي وفاته عام 1968، وهو من أول المصريين الذين كتبوا عن الاشتراكية، ونشر العديد من المقالات التي تناولت المذهب الاشتراكي.

كما أنه مؤلف كتاب “تاريخ الفيوم”، والذي تناول فيه تاريخ الفيوم ورصد في جزءه الثاني الرحلة الملكية التي قام بها الملك فؤاد إلى الفيوم في عام 1927، ويعد المرجع الوحيد الذي رصد تلك الزيارة، فمن هو؟

حول المنصوري

ولد المنصوري في عام 1890 بحي عابدين في القاهرة، لأب كان يعمل ضابطا وأحيل إلى الاستيداع وكان يمتلك ثروة كبيرة، لكنه أنفقها كلها في تجارب تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب، حتى أفلس تمامًا ثم توفى في عام 1894، وتولى شقيق المنصوري الأكبر تربيته.

وحصل على البكالوريا عام 1907، والتحق بمدرسة المعلمين و كانت مدة الدراسة بها ثلاث سنوات فقط، والتحق بالقسم الأدبي فدرس اللغة العربية والإنجليزية، وقد ذكر أن الأديب عبدالقادر المازني تخرج قبله بعامين، كما تخرج بعده الأثري سليم حسن، وبعد تخرجه التحق بالجامعة المصرية بنظام الانتساب، كما التحق في عام 1910 بكلية الآداب قسم اللغة العربية.

وعمل المنصوري مدرسا وتنقل بين المدارس المختلفة إلى أن ترقى، واستلم عمله كمدير للتعليم بمديرية الفيوم في عام 1925 حتى عام 1930، حيث حدث صدام بينه وبين عمر وهبي مدير الفيوم وقتها، والذي أصدر قرارا في 3 إبريل عام 1930 بإيقافه عن العمل وفصله نهائيًا واتهامه بـ13 تهمة من بينها الكفر وعدم الإيمان بالإسلام والرشوة وغيرها من اتهامات، وطالب المنصوري وقتها بالتحقيق معه في هذه التهم التي يرى أنها كيدية وأرسل الطلب لكل من وزارتي المعارف والداخلية إلى أن رسائله كان مصيرها الاهمال.

أول من كتبوا عن الاشتراكية

يذكر الكاتب والمترجم بشير السباعي، في مقال نشره بمدونته “مبدأ الأمل”، أن المنصوري نشر في عام 1919 ترجمة عربية لرسالة تولستوي “ماذا نحن فاعلون إذا” تحت عنوان “مساوئ النظام الاجتماعي وعلاجها”، ونشر أيضا في عام 1920 ترجمة عربية لكتاب هنري جورج “التقدم والفقر”، كما نشر سلسلة من المقالات تحت عنوان “فلسفة الحياة” في صحيفة “قارون” المحلية الصادرة في الفيوم، كما كتب رسالة تحت عنوان “سبعة أيام في الجنة” لم تنشر بعد.

وبحسب كلام الدكتور على الدين هلال، في مقال نشره في ديسمبر 1968 بمجلة المصور، وقبل وفاة المنصوري وكان بعنوان” مؤلف أول كتاب عن الاشتراكية في مصر يعيش في قرية الشواشنا بالفيوم”، أن كتاب تاريخ المذاهب الاشتراكية للمنصوري والذي نشر في عام 1915 هو الأول في هذا المجال، وقام بطباعة ثلاثة آلاف نسخة منه، لم يباع منها في مصر سوى خمسمائة نسخة فقط والنسخ الباقية من الكتاب تم بيعها في بيروت، وبالرغم من ذلك كان صدى الكتاب مدويًا بين أنصار القديم والحديث وهاجمه بعض رجال الأزهر، حيث دعا الكتاب إلى إصلاح الأحوال في الأزهر، وإدخال علوم حديثة إلى مناهجه الدراسية.

كما نادي المنصوري في كتابه بوضع حدود وقيود على حق الطلاق والزواج بأكثر من واحدة، كما طالب بأن يكون حق الطلاق والزواج في يد القاضي الشرعي فقط.

ويري السباعي، أن مساهمة المنصوري الخاصة في الكتاب هي المتعلقة ببرنامج الإصلاحات الذي اقترحه في الفصل الأخير من كتابه، وكان عبارة عن برنامج يتكون من ستين مطلبا كان من أهمها الدعوة إلى جعل الوزارة مسؤولة أمام الهيئة البرلمانية، كفالة حرية الانتخابات، إيجاد محلفين بالمحاكم الأهلية، تعديل القانون الشرعي بما يتماشى مع الروح العصرية، إلغاء جميع القوانين التي تقيد حرية الاجتماع والخطابة والصحافة.

وقد أكد المستشرق الروسي زلمان أ. ليفين في كتابه  “الفكر الاجتماعي والسياسي الحديث في لبنان وسوريا ومصر”، أن جميع المطالب التي تضمنها برنامج تندرج جميعها ضمن منظور إصلاحي ليبرالي.

وهنا تجدر الإشارة إلى ما ذكره بشير السباعي، في مقاله المشار إليه آنفا، أن المنصوري لم يرتبط بأية نشاطات سياسية حزبية، وكان بعيدا بوجهٍ عام، عن الحركة التحررية، القومية المصرية المناوئة للاحتلال الأجنبي وأكثر قُربا إلى اتجاه أحمد لطفي السيد (1872-1963) المعتدل الداعي إلى التركيز على الإصلاح الداخلي في ظل الاحتلال البريطاني.

مقال على الدين هلال في مجلة المصور عن حسنين المنصوري
مقال على الدين هلال في مجلة المصور عن حسنين – مجلة المصور

وحسب ما نشرته جريدة المصور في عددها الذي صدر في 21 ديسمبر عام 1965، أن المنصوري كان دائم التساؤل “لماذا ينقسم الناس إلى أغنياء وفقراء”، وقام بدراسة تاريخ نظام امتلاك الأراضي في مصر منذ عصر القدماء المصريين حتى يوضح أن امتلاك الأراضي في وقته بمصر قائم على أساس لا يمكن اعتباره نظام عادل أو مشروع، لافتًا إلى أن هناك خطا جسيم من احتكار الأجانب وقتها للعديد من مصادر الثورة في مصر، في حين أن أغلب المصريين يعيشون في فقر رغم معاناتهم وكدحهم، وقد قامت قوات الأمن وقتها والتي كانت امتداد لسلطة الاحتلال البريطاني بمهاجمة منزله ومصادرة الكتاب.

اشتراكي متدين ضد الفقر

في عام 1919 ترجم المنصوري ونشر كتاب للأديب الروسي “ليو تولستوي” حول مساوئ النظام الاجتماعي وعلاجها، وكما يقول أمين عز الدين، مؤلف كتاب “المنصوري سيرة مثقف ثوري “، إنه اختار هذا الكتاب تحديدًا من بين كتب تولستوي لأنه يهاجم الملكية الفردية ويمجد العمل اليدوي، كما أن الكتاب فصل الفكرة الاشتراكية عن العقيدة الدينية، حيث يمكن للفرد أن يكون متدنيًا وفي نفس الوقت اشتراكيًا، لكونه غير مناقض للدين، وأن الأفكار حول ضرورة إلغاء التفاوت الاجتماعي التي تنبع من سوء توزيع الملكية الزراعية بعيدة عن الكفر أو الإلحاد.

وهو ما يمكن أن نراه دعوة إلى نشر الأفكار الاشتراكية، والتي تبدأ أولا بفهم وإفهام العامة بأنها لاتناقض الدين.

وترجم المنصوري في عام 1919 كتاب الفيلسوف الاجتماعي الأمريكي هنري جورج الذي حمل عنوان “التقدم والفقر”، وفي مقدمة الكتاب كتب هذا الإهداء “إلى هؤلاء الذين يشعرون بالبؤس والشقاء الناشئين عن سوء توزيع الثروة، ويرون إمكان إيجاد نظام أعدل وأرقى، ويأنسون في أنفسهم استعدادًا للجهاد في سبيل تحقيق ذلك”.

دكتور أيمن عبد العظيم محقق كتاب الرحلة الملكية - تصوير منال محمود
دكتور أيمن عبدالعظيم محقق كتاب الرحلة الملكية – تصوير: منال محمود

كتاب تاريخ الفيوم

ارتبط المنصوري بالفيوم وظل بها قرابة النصف قرن حتى وفاته، وزاد حبه لها وتعلق بها كثيرًا، وشرع في تأليف كتاب عن تاريخ الفيوم، قبل اقتراب موعد زيارة الملك فؤاد للفيوم.

ويقول الدكتور أيمن عبدالعظيم رُحيم، الباحث في التراث والذي قام مؤخرًا بنشر كتاب “الرحلة الملكية”، إن كتاب تاريخ الفيوم للمنصوري وحسب ما ذكر في جريدة قارون وهي جريدة محلية كانت تصدر بالفيوم وفي عددها الصادر في 25 سبتمبر عام 1927، والتي جاء فيها تنويه لها عن صدور كتاب تاريخ الفيوم للمنصوري أنه يتكون من جزئين، الجزء الأول يتناول فيه المنصوري تاريخ الفيوم في عهد الفراعنة، وفترة أسرة محمد على ونظام الري بها، وآثارها ومناخها  وحالتها العمرانية والصناعية والزراعية والتجارية، بالإضافة لذكر أهلها، أما الجزء الثاني من الكتاب فيتناول زيارة الملك فؤاد للفيوم والتي استمرت أربعة أيام.

ويردف رُحيم، للأسف لم أعثر على الجزء الأول من الكتاب، لكني عثرت على الجزء الثاني وهو ما تناولته في كتابي “الرحلة الملكية …وقائع زيارة الملك فؤاد الأول لقرى مديرية الفيوم ومراكزها سنة 1972″، وفيه أراد المنصوري تصوير الفيوم في تلك الفترة، ولم يحظ كتاب المنصوري مع الأسف بالرواج بين أبناء الفيوم، وأعتقد أن ذلك بسبب أن الوقت لم يكن مواتيًا للاهتمام بموضوع الكتاب خاصة أن جزءه الثاني سيرونه بأنفسهم، وفي عام 1927 أمر رئيس مجلس المديرية وقتها أحمد بك الدمرداش بتشكيل لجنة من ثلاثة أعضاء لدراسة كتاب تاريخ الفيوم للمنصوري، تمهيدًا لشراء كمية لتوزيعها على طلبة مدارس مجلس المديرية بالفيوم.

غلاف كتاب الرحلة الملكية - تصوير منال محمود
غلاف كتاب الرحلة الملكية – تصوير: منال محمود

ويكمل رُحيم، من خلال دراساتي وأبحاثي في صحافة وتاريخ الفيوم، كانت الفيوم في ذلك الوقت تشهد نهضة أدبية كبيرة فقد كانت تموج بالشعراء والأدباء والعلماء، وقد قام مصطفي حسنين المنصوري بطباعة هذا الكتاب على نقته الخاص في مطبعة بمدرسة الفيوم الصناعية، وكان ثمن النسخة 10 قروش، وقد جاء الجزء الخاص بزيارة الملك فى 71 صفحة، عرض فيها  المنصوري أسباب الزيارة، والاستعدادات الفيوم لها، وتفاصيل الزيارة التي كانت مدتها أربعة أيام.

عُزلة 

انقطع المنصوري عن العمل الوظيفي بقرار فصله، وقرر هجر الحياة العامة، واختار الذهاب إلى الشواشنة إحدى قري ريف الفيوم، وظل بها حتى وفاته، وقد واجه المنصوري ظروفا قاسية نتيجة إيمانه بأفكاره، فقرر الابتعاد عن الجميع، وقام باستصلاح وزراعة قطعة من الأرض البور، وقام بتربية الطيور والأرانب، وقام ببناء منزل كبير يأوى الفلاحين الذين كانوا يزرعون الأرض فقد كانت تقع ما بين قرية الشواشنة شرقًا وقرية المشرك قبلي، وفيما بعد أقام الفلاحون بيوتًا بجوار بيته وتوسعت العزبة، وقد ذكر أهالي القرية أن زوجة المنصوري “المدير” كانت تحيك لهم ملابسهم بالمجان.

وظل المنصوري في تلك العزبة وفي دائرة النسيان، إلى أن قامت ثورة 1952، وقام الرئيس جمال عبدالناصر ببعض الإجراءات الاشتراكية، التي اتضح بها صحة اتجاه عبدالناصر عن المنصوري، والذي عاد تدريجيًا إلى الاهتمام بالمسائل العامة وكتابة المقالات.

اكتشاف المنصوري مرة أخرى 

يقول الدكتور أيمن عبدالعظيم رُحيم، إنه بعد اشتراكية ناصر عام 19761، بدأ بعض الكتاب في البحث عن جذورالفكر الاشتراكي ومن تناوله في كتاباته، وعن طريق الصدفة عثر الكاتب أمين عز الدين في سور الأزبكية على ترجمة المنصوري لكتاب “التقدم والفقر” وقد دهش عندما علم أن المنصوري له كتابين آخرين هما: “تاريخ المذاهب الاشتراكية، و”مساوئ النظام الاجتماعي وعلاجها”، وظل يبحث عنهما، وناشد القراء عبر عدد مجلة المصور الصادر في 31 ديسمبر 1965 التواصل معه إذا ما كان هناك سبيل للعثور على هذا الكاتب الفذ.

ويضيف أنه من خلال نداء الكاتب أمين عز الدين، تواصل  مراد رشدي، أبن أخت المنصوري مع الكاتب، وعلى الفور سافر إليه أمين عز الدين و على الدين هلال، وبشير السباعي، ولم تنقطع زيارات عز الدين، الذي اتاح له القيام بعمل محاضرات في المعهد العالي للدراسات الاشتراكية.

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر