آمنة ومبروكة: بين ثورتين

في مشهد من رواية «دعاء الكروان» تتحدث آمنة عن البيت الذي خدمت فيه في المدينة، وهو بيت المأمور، وأن أهله لا يلمسون الطعام بأيديهم، ولكن من خلال أدوات المائدة. وهي ليست أدوات مائدة عادية لأهل المدن -كما تقول آمنة- ولكنها أدوات مائدة للمترفين، خاصة من أهل المدن. وتقارن بينهم وبين طريقتهم في الأكل بأناة واستمتاع وبين النساء الفقيرات اللاتي اجتمعن في بيت عمدة قرية بعيدة وهن يلتقطن الطعام بأيديهن بسرعة ويلتهمنه على عجل.

**

تشبه هذه المقارنة مقارنة قامت بها مبروكة بطلة رواية «الرجل الذي فقد ظله» لفتحي غانم. عندما قارنت بين البيت الكبير الذي خدمت فيه وهي طفلة وبين بيت الموظف البسيط عبدالحميد السويفي. كما تشبه مقارنة آمنة صورتها عن نفسها في النهاية بعدما أصبحت زوجة المهندس وسيدة البيت. ومقارنة مبروكة لصورتها عن نفسها بعدما أصبحت سيدة البيت الصغير وزوجة عبد الحميد السويفي.

أتت كل من آمنة ومبروكة من الريف في صغرهما لتعملا في خدمة البيوت في المدينة وتم الاعتداء عليهما: تم الاعتداء على مبروكة من سيدها الشاب، وتم الاعتداء على أخت آمنة من مهندس الري. تركت كل منهما البيت الأول الذي خدمت فيه وانتقلت إلى بيت آخر. كان البيت الأول لكل منهما بمثابة فترة التكوين لأنه البيت الذي عاشتا فيه طفولتهما وصباهما.

استفادت آمنة من مرافقتها لخديجة مخدومتها وصديقتها التي في مثل سنها. واستفادت من مصاحبتها إلى الكُتاب ومن دروس التعليم، بينما لم تستفد مبروكة كثيرا من تربيتها في بيت سامية. رغم هذه التشابهات الكثيرة لكن الاختلاف بين الشخصيتين أكبر. تدور أحداث رواية دعاء الكروان لطه حسين في الفترة ما قبل 1934. بينما تدور أحداث رواية الرجل الذي فقد ظله في الفترة ما قبل ثورة 1952 وما بعدها.

**

تملك كل من آمنة ومبروكة صوتا خاصا بها في الروايتين. تتحدث مبروكة بهذا الصوت الخاص عن حياتها وتحكي حكايتها. لكنها تظل صوتا مع ثلاثة أصوات أخرى لشخصيات الرواية. تبدو هذه طريقة عادلة في تقديم الحكاية؛ لكن آمنة في دعاء الكروان تنفرد بالحكي كاملا. ويتخلل صوت حكيها مقاطع للراوي العليم الذي يؤيدها.

يبدو أن لآمنة حكاية مأساوية وثأرا قديما؛ تحاول الانتقام من مهندس الري لأنه كان السبب في مقتل أختها لوقوعها في حبه. لكن آمنة التي تحضر دروسا في الكُتاب وتتعلم على يد مدرس خصوصي. بمرافقتها لمخدومتها خديجة بنت المأمور تتطور شخصيتها وتحول مشاعرها المختلفة من كراهية ورغبة في الانتقام ورغبة في معرفة مهندس الري. ذلك الشخص المجهول الذي كان سببا في مقتل أختها إلى حبه والزواج منه. عندما دخلت آمنة إلى بيته كخادمة كانت تريد الانتقام وتدفعها الكراهية. ولم تكن تريد أن تصبح سيدة البيت، لكن هذا ما حدث في النهاية.

وعندما دخلت مبروكة إلى بيت يوسف السويفي كانت تحب يوسف وترغب في الزواج منه. نجحت في أن تصبح سيدة البيت بالزواج من أبيه، لكنها لم تجد الحب عند يوسف وتحولت حياتها إلى مأساة. قام عبدالحميد السويفي بتعليم مبروكة مبادئ القراءة والكتابة. لكن لم يكن لديها اهتمام بالتعلم أو الكتب بعدها. ورغم حبها ليوسف السويفي في البداية، إلا أن هذا الحب يتحول إلى حقد وكراهية في النهاية.

**

بينما تهتم آمنة بفكرة العلم والتعلم بعد مقتل أختها. تحاول خديجة مخدومتها وصديقتها أن تواسيها بأن تحدثها عن اللغة الجديدة التي بدأت في تعلمها؛ وهي اللغة الفرنسية. وتجد آمنة في هذا الحديث مواساة لها، وعندما تنتقل للخدمة في بيت غني من أغنياء القرية تهتم بمكتبته ومكتبة أولاده واهتمام أولاده بالقراءة والكتب، ومنها كتاب ألف ليلة وليلة.

قد تكون هذه إشارة مضمرة من طه حسين إلى أن آمنة تشبه شهرزاد بشكل ما: هي التي حولت اهتمام المهندس بغواية النساء وذهابه إلى النوادي ليقضي فيها الأمسيات ليهتم بالقراءة كل ليلة.

بينما ترى أمها بعد ما حدث لأختها أن المدينة مدينة مشؤومة أو موبوءة لكن آمنة تجد الأمان والتقدم في هذه المدينة الصغيرة. تأتي آمنة من أطراف الريف؛ من أعراب يعيشون على أطراف المدن لتعمل في المدينة. والمقصود بالمدينة هنا ربما هو المتعارف عليه باسم مركز كبير من مراكز القرى. حيث يكون هناك مصنع للسكر ومصالح حكومية كمركز البوليس ومقر لمهندس الطرق وآخر للري. بينما تدور أحداث رواية الرجل الذي فقد ظله في القاهرة المدينة الكبيرة، وتخدم مبروكة في بيت كبير من بيوت أغنياء المدينة. إلا أن كل الاهتمام الذي يغلب على عالم مبروكة ربما هو الحب والرغبة في التملك وأن تصبح سيدة بيت، وتتحول هذه الرغبات إلى مأساة.

**

انتقلت آمنة إلى بيت مهندس الري وهي تريد الانتقام منه لمقتل أختها بسببه. وفي نفس الوقت كانت تريد أن تعرف هذا الرجل الذي وقعت أختها في حبه. انتقلت مبروكة إلى بيت يوسف السويفي وهي تحب يوسف ورغبت في الزواج منه، لكنها تتزوج أباه.

تبدو الصفات الشخصية لآمنة أقوى من مبروكة، كما امتلكت آمنة بعض الثقافة والوعي الفطري وقدرة على تكوين شخصية قابلة للتغير والتطور، بينما تتوقف أحلام مبروكة وتفشل في تحقيق أحلامها، أو حتى بلوغ الأمان لها ولولدها. قد تكون السمات الشخصية لها عامل كبير في ذلك، لكن ماذا عن العوامل الخارجية؟ تدور أحداث رواية الرجل الذي فقد ظله قبل ثورة 1952وبعدها، لكن مبروكة لم تستفد من التغيرات الاجتماعية التي صاحبت تلك الثورة. بينما دارت أحداث رواية دعاء الكروان في الفترة ما بعد ثورة 1919 بوقت طويل؛ لكننا نجد مهندس الري بعد تغير شخصيته يريد الزواج من خادمته ولا يجد في ذلك أي حرج.

اقرأ أيضا:

ملف| طه حسين عميد الأدب العربي.. البصير الذي جاء ليقود خطانا إلى النور

«من رسائل العميد» إلى توفيق الحكيم: من أين يستمد الأدب المصري الحياة؟

رسالة إلى العميد في ذكراه

«من رسائل العميد» إلى‭ ‬هيكل باشا: في نقد «ثورة الأدب»

محمد حسنين هيكل في زيارة إلى العميد: صومعة عقل

طه حسين والجامعة.. ذكرى قيمة العميد

«طه حسين»: معركة الخطوة الثانية

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر