سيف وانلي في ذكراه: النغم الإنساني يسري في الكون

في مثل هذا اليوم منذ 42 عاما، رحل سيف وانلي (1906-1979) أحد أبرز الأسماء اللامعة في الفن المصري الحديث. وقد مثل مع شقيقه أدهم اتجاها وتيارا جديدا فى الفن المصري، وصفه هو نفسه بالتجريد الغنائي، رغم أن كليهما كان ضد التقيد الأكاديمي في الفن.

سيف وانلي

كانت أمنيه الأخوين سيف وأدهم وانلي التفرغ لتأسيس متحف يصور، باللوحات الكبيرة، تاريخ مصر في مختلف العصور على غرار ما كان ما يحدث فى كل بلاد العالم، ثم تقلص الحلم ليصبح متحف “الأخوين وانلي”.. لكن أيضا لم يتحقق حلم وانلي حتى الآن، بل إن أحلاما أبسط من ذلك لم تتحق.. أن يتم الاهتمام بتراثهما الفنى وأرواقهما الخاصة… فقط منذ سنوات قليلة افتتح قسم خاص لوحاتها في متحف محمود سعيد بالإسكندرية.. قليل من كثير.. ولكن أين ذهب بقية هذا التراث؟

بعد وفاة سيف وانلي (1979) تسرب تراث الأخوين على يد الخدم (كما يقول الناقد التشكيلي عز الدين نجيب) لم يكفوا عن الاستيلاء على كل ما تطاله أيديهم من اسكتشات وكتب واسطوانات موسيقية وبيعه سرا لأسواق التحف القديمة في الإسكندرية.. ولم تظهر كل الأوراق وإن تسرب بعضها فيما بعد بفعل الاهمال.

وظهر بعضها إلى خارج مصر تحديدا فى الكويت وقد حافظ عليها الفنان الكويتي جعفر إصلاح، الذي يهوى جمع الوثائق وأصدر كتابا هام  بعنوان: “روح مصر”، متضمنا بعض رسائل سيف وانلي، من بينها رسالة كتبها في منتصف السبعينيات إلى عبدالحميد حمدي، مدير عام الفنون الجميلة في وزارة الثقافة في ذلك الوقت، مطالبا بمعاش استثنائى:

“تحية طيبة. أرجو التكرم ببحث المعاش الاستثنائى لدى الجهة المختصة بوزارة الخزانة أو وزارة الثقافة كما وعدتم سيادتكم، حتى يتم الصرف في أقرب وقت لأني في موقف حرج ماديا، إذ باقى الزملاء المقرر لهم مثل هذا المعاش قد صرف لهم.”… الخطاب جارح.. لكنه كاشف ودال.. بينه وبين حكاية الفنان وبداياته مسافة طويلة.. وعمر.. قصة اسمها الأخوين.

قصة الأخوين

لم يدرس الأخوين وانلي في المدارس المصرية، كان والدهما الارستقراطي مؤمنا أن بإمكانه تعليمهما في المنزل، وبالفعل أحضر لهما من يعلمهما اللغات والحساب والفن في منزله… شقيقان عشق أحدهما الملاكمة (أدهم)، ويذهب لحضور مبارياتها ويحاول رسم حركات اللاعبين لتقليدها في البيت، رآه رئيس النادي الإنجليزى، فكلفه مع شقيقه برسم صور لمشاهير الملاكمين: “أدهشنى أنه بعد أن انتهينا من الرسم أعطى كل منا ساعة ثمينة، وكان هذا تقدير كونستابل إنجليزى للفن.. وهذه أول مرة رأيت فيها مثل هذا التقدير الذى لم ألمس مثله فيما بعد” كما قال أدهم فى واحد من حواراته الصحفية النادرة….

أما نقطة التحول الكبري في تاريخهما بحسب إشارة مكرم حنين فقد بدأت في العام ‏1926،‏ ففي زيارة إلى القاهره قررا زيارة معرض جماعه الخيال التي أسسها محمود مختار وهي زيارة زادت إيمانهما بالفن.

كان الفن لدى أدهم أكثر اتساعا من اللوحة، عشق رسوم الكاريكاتير، ونشر له في مجلة “روزاليوسف” في الخمسينيات رسوماته لأكثر من عشر سنوات، بل إن تصميم كلمة “روزاليوسف” للمجلة من تصميم أدهم. وهي أمور تميزه عن شقيقه سيف عاشق اللوحة.. بل تمتد إلى طبيعة تكوين شخصيتهما المختلفة رغم أن البعض كان يراهما تؤام لا ينفصلان.

“كان سيف أكثر خجلا وانطواء على نفسه وأقل حديثا من شقيقه “أدهم” المرح الساخر المنطلق، هذا الاختلاف انعكس حسب تعبير فؤاد دواره على أسلوبيهما الفنى: “لوحات سيف تميل إلى التجديد والتأمل العميق، وتتضح فيها مأساة الحياة بألوانها الهادئة القاتمة، أما “أدهم” فتفيض لوحاته بالسخرية والدعابة المرحة التي تتضح فى تكويناته الحية وألوانه الذاهية المشرقة”.

عندما مات “أدهم” شعر سيف بالوحدة وكتب في مذكرات شخصية عرضت في معرض بعد رحيله عام 1988: “صرت وحيدا، رغم ما يحوطني من الأهل والأصدقاء؟، لأن فقدى لأدهم لا يعوضنى فيه أحد لقد كان كل منا ظلا للآخر، فتصوروا رجلا فقد ظله في يوم ولا ليلة له. رأيته يتلاشى أمامي، وكان الأمل بشفائه يقف أمامي متجسدا حتى تبدد، ولم أصدق أبدا ما حدث، وتجمع الدمع في عيني إلى أن أسالته مرارة الحقيقة”.

سيف وانلي في مرضه الأخير
سيف وانلي في مرضه الأخير

ويضيف: “بعد أن ذهب هو إلى مكان لم يترك لي عنوانه، أصبحت ألواني سوداء.. بلا تعمد.. ما هذا؟ أنا الذى كانت ألواني صداحة، وكنت معروفا بها، أنا الذي كنت أضع اللون الأزرق بجوار اللون الأخضر، أو الأخضر مع الأخضر والأحمر مع الأحمر، متحديا المصطلح في فن التصوير، ها أنا وقفت أخيرا إلى القيمة الجلالية للون الأسود ومشتقاته الرمادية”؟

سيمفونية السمك

لم يفكر سيف أن ينجب أبناء، كان يعتبر نفسه ابنا للموسيقى والألوان، ربما لهذا كتب عنه أحمد عبدالمعطي حجازى القصيدة “غربة” التي أهداها له: (أهو اللون، أم الإيقاع ما يحملك الآنَ/ علي هذا البكاء الفذ؟/ أم بعد الصور؟).. هي قصيدة عشقها سيف.. الذى كان يرسم بشكل يومي كل صباح.. كما يقول: “أجلس أمام الألوان واللوحة أمامي عبارة عن استاد رياضي أمارس فيه رياضة روحي. أطارد لونا أزرق يخصني وحدي ولكنه بعيد عني، أصنع هذا اللون بنفسي من نفس المواد التي صنع منها قدماء المصريين ألوانهم”. هذا التأثر بالموسيقى جعل سيف يميل إلى تكسير كل القواعد الفنية المتعارف عليها أو المصطلحات المتعارف عليها: “بوضع الألوان الباردة متجاورة في لوحة، والألوان الساخنة في لوحة أخرى، فما كانت إلا محاولات متأثرة موسيقى استرافنسي، كنت أقوم برسمها لنفسي..”.

هذه الموسيقى البالغة العذوبة في لوحاته جعلت الروائي خيري شلبى يطلق عليه لقب “الموسيقار”.. :”رسم سيف وانلي كل شىء وكأنه يسجل نوتة موسيقية لكل شىء، يسجلها عزفا: البحر والصيادين والأسماك حتى لوحته عن السمك اسمها سيمفونية السمك”.. ويضيف: “وفي رسمه للحياة والناس نراه يجسد أنبل ما فيها وفيهم: موسيقية الحركة، النغم الإنساني الذي يسري في الكون، كفاح الإنسان ونضاله ضد عوامل القهر والفناء وما يثيره للكفاح والنضال من جماليات لا تراها إلا عين شديدة الحساسية..”… هذه بعض من ملامح عوالم الأخوين وانلي.. اللذين لا يوجد حتى الآن متحف يضم أعمالهم أو يجمعها.. ألم يحن الوقت لاعادة الاعتبار للأخوين وانلي في بلدهم؟!

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر