علاء خالد يكتب: ابن البلد يوسف فهمي الجزايرلي

يرسم علاء خالد في نصوصه الإبداعية المتعددة خريطته الخاصة للإسكندرية، متاهاتها، ووجوها المتعددة، وناسها. تبدو وكأنها – للوهلة الأولى- موضوعه الأثير لكنها مجرد طبقة من طبقات نصوصه. الاهتمام الأكبر لعلاء هو ذلك الإنسان المهمش، الناس العاديين الذين لا يملكون قدرة أو مكانا يروون من خلاله حكاياتهم. يمنحهم علاء صوتا لتصبح هذه الحكايات هي المركز لا الهامش.
في عام 2012 نشر علاء خالد كتابه «وجوه سكندرية: سيرة مدينة»، كتاب حياته كما وصفه، يحفر فيه كأركيولوجي، في «طبقات من وعي المدينة، تاريخية ونفسية، استقرت فيها وارتبطت بمفاهيم محددة: كالتعدد والكوزموبوليتانية والتسامح. وهي المفاهيم الرئيسة التي سيطرت ووجهت كتابات العديد من الكتاب عن الإسكندرية. لكنها لم تعد الأفكار الوحيدة والكافية التي يمكن أن تفسر، بالنسبة إليّ، علاقتي بالمدينة» كما يقول.
خصص علاء في كتابه فصول عن صورة الإسكندرية في الأدب، عبر رباعية لورانس داريل، ورواية «ميرامار» لنجيب محفوظ، وكتاب غير معروف طبع في الستينيات من القرن الماضي بعنوان «إسكندرية في فجر القرن العشرين»، وهو عمل يجمع بين الأدب والطبوغرافيا والخيال، كتبه المؤرخ السكندري يوسف فهمي الجزايرلي. وحسب علاء هو من «أوائل الذين كتبوا عن الإسكندرية من وجهة نظر ابن البلد. لكنه لا يثبت فكرة متعالية عن المدينة كالتعدد أو التسامح مثلا، كان يحاول أن يرى المدينة ويصورها من خلال روح وعين شعبية».
انشغل علاء بسيرة الجزايرلي، وكتب عنه مرات عديدة وخصص عن كتابه النادر، ورواية نجيب محفوظ ميرامار ورشة عامل أقيمت في مركز الجزويت عام 2014 بمصاحبة العديد من الكتاب الشباب السكندريين “قلنا نمشي ورا الأماكن والحكايات اللي في الروايتين.. ونرد الاعتبار لأشخاص وأماكن محدش اتكلم عنها” كما قال خالد حوار صحفي له.
تقديرا من «باب مصر» لعلاء وتجربته الإبداعية الفارقة، ودوره الريادي في الكشف عن خبايا الإسكندرية وتراثها الإبداعي الذي لا ينتهي. نعيد نشر الفصل الخاص يوسف الجزايرلي صاحب «إسكندرية في فجر القرن العشرين».
***

في كتاب «الإسكندرية في فجر القرن العشرين» يحكى المواطن والمؤرخ السكندري يوسف فهمي الجزايرلي عن الإسكندرية الشعبية فى بدايات القرن، والتي عاصرها المؤلف عندما كان شابا. يعتبر هذا الكتاب بالنسبة لي أحد أهم الكتب التي أرخت للمركز الشعبي للإسكندرية. حيث حي السيالة والجمرك والأنفوشى، وكوم الشقافة والمحمودية. كان المركز في إسكندرية الأدب في رباعية داريل، وفي سيرة فورستر يتمحور حول إسكندرية الأجانب: محطة الرمل، المنشية، العطارين، وشارع فؤاد، الحي اللاتينى. جاء يوسف فهمي الجزايرلي ليضع مركزا آخر للمدينة، المركز الأصلي ليزيح قليلا تأثير المركز الآخر. أصبح لساكني هذه الأحياء الشعبية وحياتهم اليومية تمثيل وصوت داخل كتاب يوسف فهمي الجزايرلي لم يظهر في أي من الكتابات التي تناولت الإسكندرية في تلك الفترة الذهبية من حياتها.

***

” سأحاول في هذا البحث – أيها القارىء الكريم- أن أعرض على بصيرتك الباطنة عن طريق تداعى المعاني وانسجام الأخيلة وصفا لمدينة الإسكندر الأكبر يشبه في تتاليه السريع الشريط السينمائي. وسأبذل طاقة الجهد في أن تستعرض معي هذا الشريط وأنت مستريح في أريكة من أرائك منزلك العامر. لايقطع ماتصل من انتباهك وقائع تاريخية تحتاج إلى التعمق في التفكير أو إحصاء معقد يستلزم الإمعان في الاستنباط والمقارنة- إذ كل التفصيلات المتعلقة بذلك ستجد مواضعها المناسبة في التدوين التاريخي الذي ذكرته من قبل”.

بهذه المقدمة يبدأ يوسف فهمي الجزايرلي بحثه، أو شريطه السينمائي الذي يدعو فيه القارئ إلى أن ينظر ببصيرته الباطنة. كون هذا الشريط يأتي من الماضي، الماضي الذي تحول إلى خيال لايمكن رصده فقط بالعين بل بالعين الداخلية لكل منا، العين الحالمة. في شريطه السينمائي يحول يوسف فهمي الجزايرلي الماضي كأنه حدث في الحاضر يحدث أمام عينيه وليس المسألة مسألة تذكر. بالرغم من أن زمن التذكر يتوزع على مدى خمسين سنة في الماضي. ولكن تقنية الشريط السينمائي التي يستعملها تستدعي الماضي ليكون حاضرا. ومن أهم الأدوات التي تستخدم لنجاح هذا الربط بين الزمنين هو الحنين، أو بشكل ما حب هذا الماضي. هذا الماضي السعيد الذي يتحدث عنه يوسف فهمي الجزايرلي هو إسكندرية بدايات القرن العشرين، وزمن الكتابة هو إسكندرية الستينيات.

***

تظهر إسكندرية في شريطه السينمائي سعيدة ومبتهجة وفوارة بالحركة والرقص والاحتفالات، والأناشيد والأغانى. الإسكندرية التي تعرض نفسها من خلال أبطال هم عادة الأبطال الشعبيين، أو “أولاد البلد”، “الأصلاء” كما يسميهم يوسف فهمي الجزايرلي، بالمقارنة بالدخلاء أو النازحين. سواء كانوا مهاجرين من القرى، والأرياف، أو الأجانب، والذي لا يتأتى على ذكرهم إلا لماما، كأنهم غير موجودين. فقد كان مشغولا فقط بالتأريخ لإسكندرية أخرى. إسكندرية خالية من الاستعمار والفساد، والتيارات السياسية والمظاهرات. وربما لم يأت على ذهنه من الأصل الخوض في مثل هذا النوع من التأريخ الاجتماعي، بل كان يحاول أن ينقذ الأيقونات القابلة للنسيان.

بالتأكيد هناك نوع من الاعتزاز بهذا الأصل السكندري الذي ينتمي له المؤلف. ويبدو أنه شىء موروث، ظهر فى وجود “آخر” ساهم بشكل ما اختلافه فى تأكيد هذا الاعتزاز أو “العنجهية الإسكندرانية” كما سيأتى ذكرها فيما بعد. ولكنه هذا “الآخر” متوار في هذا البحث أو هذا الشريط السينمائي. بمعنى آخر أن الكتابة لم تبحث في جذور هذا الاعتزاز أو العنجهية وإنما جاءت بعد تكونه واستلمته كفريضة. يستثنى من الأجانب، أو “الآخر” الجالية اليونانية، والتي كانت تمثل كثافة سكانية وكانت ممتزجة مع الإسكندرانيين. فلم يتحولوا إلى “آخر” يتم تجاهله في شريطه السينمائي، وأصبحت احتفالاتهم جزءا من المشهد العام لاحتفالات أهل الإسكندرية.

غلاف كتاب علاء خالد «وجوه سكندرية»
غلاف كتاب علاء خالد «وجوه سكندرية»
***

يهتم يوسف فهمي الجزايرلي بالتأريخ لكل مظاهر الحياة في إسكندرية فجر القرن العشرين. الاحتفالات، العادات، الأطعمة، المقاهى، تحولات الأماكن، أو مظاهر التحديث، وسائل المواصلات ويولى اهتماما خاصا للملابس، سواء للرجال أو للنساء، في كل الطبقات.

“وخرجت (بنات البلد) للتنزه على شاطىء الأنفوشي والميناء الشرقي أو لشراء حوائجهن من الحوانيت والمتاجر- وقد ضمت الملاءات اللف من (الكريشة) السوداء قاماتهن. وحجبت البراقع الكثيفة المنسوجة من الخيوط الحريرية السوداء الأجزاء العليا من أنوفهن (القصبات) الأسطوانية المصنوعة من الأسلاك الذهبية أو النحاسية المطلاة بقشرة من الذهب-. وكملت العجاف منهن النقص في وزنهن الخفيف بحشيات وضعتها فوق الأثداء والأرداف لتعظم من هيئتها وتوائم رغبة الرجال فيما يحب أن تكون عليه المرأة المثالية من ضخامة ولاسيما بالنسبة إلى الأجزاء البارزة من جسمها”.

هذا الوصف الدقيق لملابس بنات البلد، وطريقتهن في إبراز مفاتنهن. لايتوقف عند هذا الحد بل يصل لوصف الشباشب والقباقيب اللاتي كن يلبسنها في أرجلهن:

 “وفي أرجلهن التي صانتها من الحفاء القباقيب الخشبية المطعمة بمربعات من الصدف الدقيقة أو (الشباشب) المطرزة بخيوط الحرير الملونة. أخذت جلاجل الخلاخيل الذهبية أو الفضية تصدح في رنات عذبة تتفق وقرقعة القباقيب وزحف الشباشب. وبدت صدورهن خلف “الراقع” مزينة بعقود من حبات الكهرمان الحر الفاقعة الصفرة يتخللها الفرجلات في الوسط. وظهر معاصمهن محلاة بأساور العزول الذهبية المتعرجة في استدراتها تتدلى منها السلاسل الرفيعة في الوسط تعلوها أرباع الجنيهات”.

يهتم يوسف فهمي الجزايرلي في تأريخه السينمائي للإسكندرية أن يرصد سلوك كل طبقة رجالها ونساؤها وملابسها، مع انحياز ضمني للطبقة المتوسطة، والذي اعتقد أنه كان أحد أفرادها:

“ولم تخل الشواطىء والشوارع من سيدات الطبقة المتوسطة. وقد بارحن الخدور لزيارة بعض الأسر مؤتزرات (بالحبرات) التي اتخذتها من الحرير الأسود اللامع تغطيهن (جونلاتها) من الأقدام إلى الخصر وتحجب (حرملاتها) النصف الآخر من أجسامهن. بربط الجزء الأعلى منها بشريطين حول الرأس والجزء الأسفل بحزام حول الخصر. وضم الطرفين الأمامين بمشبك فوق الصدر- وحجب وجوههن حتى أسفل العينين (اليشمك) المصنوع من القماش الكتان الرفيع”.

***

ثم ينتقل يوسف فهمي الجزايرلي في وصفه الدقيق لملابس النساء متدرجا من طبقة لطبقة حتى يصل للطبقة الراقية كما يسميها. هذه الدقة بالفعل تتحول إلى صورة سينمائية دقيقة وساكنة للملابس لاينتقصها سوى أن تتحرك داخلها إحدى الشخصيات وينفخ فيها لتكتسب الحياة.

“وأخذت عربات (الكوبيل) القليلة تقطع شارع رأس التين وبدت خلف نوافذها من الجانبين سيدات بعض الطبقة الراقية في زيهن التركي التقليدى. المكون من الإزار الحريرى الأسود ومن (البلشيك) فوق الرأس من الشاش الثمين المقوى بالنشا”.

يتحدث يوسف فهمي الجزايرلي بصوت “ابن البلد”، ويقف في المركز الأصلي للمدينة، عند حديثه عن هؤلاء السيدات من الطبقة الراقية فتشعر في وصفه لهن بعض العتب والإدانة الباطنية:

“وتلت عربات الأجرة (الحنتور) العربات الملاكي في أبهتها الفخمة حاملة بعض أفراد الطبقة الراقية يلقون النظرات الفاترة على الجالسين والمارة من أبناء الشعب فى صلف واضح”.   

عند يوسف فهمي الجزايرلي ولع خاص بوصف لوسائل النقل في تلك الفترة. فهي بالنسبة لمن عاشوا في تلك الفترة أحد وسائل التميز الطبقي، بالإضافة أنها الدليل على التحول والحداثة أو التحديث، بمعنى زيادة السرعة. فهي من إحدى العلامات الفارقة التي يقاس بها التحول في المجتمع. السرعة التي ستغير علاقات الأحياء ببعضها، والتي ستدخل عنصرا خطرا غير آمن في الشوارع. مما سيفقد الشوارع والحواري التقليدية حميميتها، أو تناسق عناصر الحركة بداخلها.

كورنيش الإسكندرية ..للفنان: محمد جوهر
كورنيش الإسكندرية ..للفنان: محمد جوهر
***

يتحدث عن تأثير السرعة في الشوارع والفزع التي تسببه ومدى خطورتها على حياة الناس الآمنين. السرعة هي أحد أدوات العصر الجديد، والتي جعلت من الشارع مكانا غير آمن وليس امتدادا للبيت. وهو إحدى بدايات لحظات التحول في الإسكندرية كما لاحظها المؤلف.

“وبدا بعض أولاد الذوات المدللين فوق عربات الكاريتات، التي لا تستخدم إلا ف ميادين السباق العامة – راحوا يدفعون جيادهم إلى الجموح في السرعة بضربات قاسية من السياط وبصيحات مدوية من الحناجر- فانطلقت تعدو غاضبة والشرر يتطاير من بلاط الشارع تحت حدوات حوافرها الحديدية. وهم غير مبالين بمن أمامها من الأطفال والنساء والشيوخ- واستمروا في سباقهم العنيف الخطر حتى خارج المدينة”.

 نفس الملاحظة عن السرعة والحركة وامتلاء الشوارع بالناس في بداية لحظة التحول في الشارع وظهور مشهد “الزحام”. الذي لم يكن موجودا في إسكندرية القرن الثامن عشر. مثلا التي ذكرها علي باشا مبارك في خططه التوفيقية* عن إسكندرية القرن التاسع عشر. حيث الزحام ومرور العربات مقياسا لنمة الثروة. والتي هي مقياس للتقدم في صور الحياة الاجتماعية لظهور طبقات جديدة تعلن عن نفسها عن طريق هذه الثروة:

“ومن آثار الثروة أنك ترى الناس في كل موضع من المدينة في حركة: مشاة وركبانا لا فرق بين ليل ونهار بسبب الغازات الحافة بجوانب الطرق والشوارع، ذات السعة والاعتدال. مع كثرة العربات المعدة للركوب على رؤوس الشوارع والميادين، ومنها الذاهبة والآيبة على خيول كأنها الرياح المرسلة على هيآت مختلفة في المحاسن والدرجات”.

لم يترك يوسف فهمي الجزايرلي مهنة أو لعبة شعبية، إلا وتحدث عنها. صناع المراكب، المخناجية، بائع الدندورما، الكمسارية، المعلمين، الفتوات، المنشدون، بائعو العرقسوس، والحانوتية، وبائع الكراملة. وصاحب صندوق الدنيا، وعازف الطنبورة، وغيرها من المهن الشعبية، من هؤلاء الجوالين في الشوارع. والذين أصبحوا جزءا من تاريخ الإسكندرية الذي على وشك الانقراض، لذا سارع الكاتب بتسجيله.

***

ينهى الكاتب الشريط السينمائي بحديثه عن الجنازات. ويتخيل وجود “مشيع ناقم” على الظلم الذي يحدث في الجنازات، يؤلمة الفارق والتمييز بين جنازة الثرى والفقير. بينما جنازة الثرى “محمد بك الجوخدار” ملآنة بالناس والفقهاء وبالخيرات والطعام وأشكال الاحترام والتبجيل. بينما جنازة الفقير الذي اختار له اسم شعبي هو المعلم “أحمد أبوالعزايم” فقيرة وعجفاء مثل صاحبها. ويمتد الفارق الطبقي حتى الوصول إلى الجبانات في توزيع “الرحمة” أو “القرص”، وصولا إلى التمييز في مدى إتقان الفقهاء للقراءة على قبر الثرى والفقير. بينما يرخمون ويتمهلون في القراءة أمام قبر الثرى، يستعجلون أمام قبر الفقير.

عند هذا المنعطف يتغير طرق الحكي ويتحول إلى منحنى اجتماعي وفلسفي. وينسى المؤرخ تماما دوره في الرصد لمظاهر الحياة، ليدخل في تفصيلة الغنى والفقر وعدالة أو حكمة توزيع الثروات في الدنيا. يتحدث المشيع الناقم عن التفرقة بين الناس حتى في الموت:

“أهكذا يدب التفاوت في الطبقات ويطغى حتى يتوغل في كيان الجبانات- فيجعل من سكان الأبدية سيدا ومسودا وهم عند بارئهم سواء لافرق بين غنيهم وفقيرهم لديه. ولا علو في مكانتهما بملكوته السرمدى إلا بمقدار تقوى كل منهما وصلاحه”.

وهنا يبرز دور المؤرخ المحايد في هذا النقاش الفلسفي فيخترع شخصية مشيع آخر غير ناقم ليرد على المشيع الناقم أو الناقد:

“وما عليك يا أخى لو تركت الخلق ومارسمه من نظم وما قدره على الناس من سعادة وشقاء وفقر وغناء. وترضى بالواقع الراهن وتدخل الطمأنينة على نفسك فتهنأ بالاستقرار الشعوري تستريح وتريح؟

***
للفنان: محمد جوهر
للفنان: محمد جوهر

 ثم يتدخل مشيع ثالث في الحديث، كأن مشهد الجنازة في شريط السينما قد تحول إلى نقاش فلسفي بين المشيعين. يتحدث هذا المشيع الثالث الذي يأخذ جانب المشيع الراضي بالحياة. وما قسمته بين الفقير والغني، ليعدد رغد الحياة والعيش فى الإسكندرية. ثم يعدد أشكال وألوان الطعام التى حبا الله أهل الإسكندرية بها ومدى رخصها ومذاقها الطيب. من خضار وفاكهة ولحوم وأسماك، وفطائر، وأصناف الطعام الأخرى. مما يتيح للفقير والغني الاستمتاع فى آن واحد:

” كل هذا يا أخى من نعم الله على أهل الإسكندرية يجب أن يقابل بالشكر الجزيل. والحمد الكثير لبساطة الأرزاق ومسبب أسباب الرخاء لمن يشاء من عباده”.

هذا المشيع الناقم لن يتوقف عند هذا الحد، بل يكمل معه يوسف فهمي الجزايرلي الرحلة، بعد خروجه من الجبانة وذهابه لأحد المقاهى. في حي كرموز القريبة من الجبانة، لاحتساء القهوة. لايكتفي المؤرخ بعرض وجهة نظر المشيع الناقم. الذي تشعر بأنه يتكلم بعين خيال المؤلف. فقط في توزيع الأرزاق في الدنيا، بل تمتد نظرته العاتبة للأسر الإسكندرانية القديمة الذين تركوا بيوتهم في حي الأنفوشى والجمرك. حيث المركز الأصلي لأهل إسكندرية “الخلص”، واتخذوا مصايف لهم مع الدخلاء والنازحين في حي كرموز الذي كان يقع خارج سور الإسكندرية قديما. وبدأ في تخيل التحول الذي حدث في حي كرموز وكوم الشقافة وذكر العائلات الكبيرة التي رحلت إليهما. وأسباب رحيلها بعد ضرب الإسكندرية فى عام 1882، ويؤرخ أنه في هذه الظروف ظهرت ما يسمى “العنجية الإسكندرانية” جلية:

” وحي كرموز الذي تدخل رقعته في نطاق (جدعنته) يعد من الأحياء التى لايتمتع أهلها بالحسب والنسب الإسكندرايين العريقين الخالصين من شوائب التقاليد الدخيلة. – فهو في عقيدة الإسكندريين الخلص (خارج السور) وسكانه بالنسبة إليهم أغراب عن المدينة. قد نزحوا إليها من الريف أو من الصعيد في طلب الرزق ومزاولة الحرف والمهن المتواضعة. التى يترفع عن مزاولتها ولو كانت مغدقة الربح ذوو “العنجهية الإسكندرانية” العتيدة-. فهو لايضم من الأسر الحسبية النسبية إلا عددا قليلا جدا ماتزال تحتفظ بطابعها الإسكندراني الأرستقراطي البحت. وترى فيما حولها من عائلات (خارج السور) جماعات ينخفض مستواها الاجتماعي عن المستوى العادي لقدامى السكان بدرجات عدة”.

***

ثم يستطرد يوسف فهمي الجزايرلي بذكر سبب خروج تلك الأسر رفيعة المقام والحسب والنسب من داخل سور الإسكندرية وخروجها خارج السور لتسكن مع الدخلاء والنازحين:

“وقد استقر أغلب تلك الأسر المترفعة المفعمة قلوب أفرادها بالصلف في حي كرموز وفي الأحياء الأخرى الخارجية عن نطاق أسوار المدينة القديمة. منذ قيام الثورة العرابية في عام 1882 وضرب الأسطول الإنجليزى الغاشم الإسكندرية بقنابله الغادرة في 11 يوليه من العام نفسه. وتهدم الكثير من المنازل التي كانت لتلك الأسر مسكنا. ولهذا الفرق الوهمي في الطبقات الذي تشعر بإحساسه تلك الأسر في كبرياء وترفع- قلما ترضى إحداها عن مصاهرة أسرة من الأسر النازحة. التي اتخذت من المناطق الخارجة عن أسوار الإسكندرية القديمة مقرا. وذلك على الرغم من أن هذه الأسوار البائدة لم يعد إلا غذاء للخيال إذا لم يبق من آثارها إلا الأسماء”.

زالت الأسوار الحقيقية واستمرت الأسوار المجازية فاعلة في رسم الحدود بين الطبقات وبين الأصلاء والنازحين……

ثم يتداعى إلى خيال المشيع الناقم مع فنجان القهوة الثاني بداية دخول الترام فى الإسكندرية:

” ورشف صاحبنا المشيع رشفة أخرى من فنجانية (ومصمص) مرتين بضم شفتيه علامة على الرضا بما تنطوى عليه قهوة المعلم ( الطبيلي) من لذة منعشة. ثم عاد إلى الاسترسال في تخيله الخصب فتمثلت أمام بصيرة وعيه الباطن شكل عربات الترام ونظام سيرها في أنحاء المدينة المختلفة. فأخذ يستعرض كل ذلك في تفصيل دقيق”.

وبعد وصف دقيق يقوم به هذا المشيع الناقم/ المؤرخ للقاطرات ودور الكمسارى وملابسه وعربات الدرجة الأولى والثانية وأسعار التذاكر. حتى صوت نفير الترام وطريقة ضبط المزوغين من الدفع.

وكذلك الأغاني التي خلدت دخول الترام، ينهى شريطه الخيالى بإحصاء دقيق:

“وبلغ عدد الركاب الذين استقلوا عربات الترام في عام 1900 على تلك لاخطوط جميعا 777128 6. وعدد سكان المدينة 319766. وإيرادات الشركة من الاستغلال 937569 فرنكا فرنسيا أى 37500 جنيه”.

بهذا الإحصاء ينهى المشيع الناقم / يوسف فهمي الجزايرلي بحثه عن الإسكندرية فى فجر القرن العشرين.

اقرا أيضا:

علاء خالد يحاور داود عبدالسيد: الحياةُ في النهاية رحلةٌ، بشكلٍ ما، حزينة

علاء خالد يكتب: كانت تمتلك نسخة حديثة من النوستالجيا

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر