ما الذي يمكن أن تخبرنا به رقمنة التعدادات السكانية للمصريين في القرن الـ19؟

في  مارس الماضي أعلنت أكبر قاعدة بيانات سكانية على مستوى الأفراد في العالم IPUMS عن إصدارها بيانات تاريخية جديدة متاحة للعامة، لعدد من سجلات التعداد السكاني عدة دول حول العالم. تصدرت مصر القائمة باثنين من سجلات التعداد السكاني من القرن التاسع عشر لسنة 1848 و 1868 في عهد محمد علي باشا والخديوي إسماعيل. بفضل البيانات التي جمعها ورقمها الدكتور محمد صالح، أستاذ الاقتصاد في جامعة تولوز كابيتول بفرنسا.

البيانات عبارة عن 6592 سجل مكتوب بخط اليد محفوظة في دار الكتب والوثائق القومية، تحتوى على معلومات للأفراد الذين عاشوا في عصر محمد علي والخديوي إسماعيل في الريف أو في الحضر. مثل الاسم والموقع وملكية السكن ونوع السكن والعلاقة برب الأسرة والدين والجنس والمنشأ ومكان العمل.

نهضة إدارية في عصر محمد علي باشا:

أهمية هذا الإصدار الجديد تكمن في أن معرفتنا بسكان الشرق الأوسط قبل الاستعمار محدودة ذلك أنه معظم  المصادر المتاحة كانت للضرائب أو للمساحة  التي عادة ما تقتصر على شرائح معينة للطبقة الأكثر ثراءً، بالتالي هي ذات فائدة محدودة للديموغرافيا التاريخية المهتمة بمعرفة الخصائص العامة للسكان.

كان يُعتقد قبل اكتشاف صالح لهذه السجلات أن سلسلة التعدادات المصرية الحديثة بدأت في عام 1882 قبل بضعة أشهر من الاحتلال البريطاني، مثل كل التعدادات التاريخية المماثلة لنفس البلدان النامية الأخرى التي أجريت في ظل الاستعمار مثل الهند البريطانية.

د. محمد صالح
د. محمد صالح

يسرد لنا محمد صالح في مقالته التي نشرها في دورية Taylor & Francis أن هذه التعدادات ربما هي أقدم التعدادات الحديثة في الشرق الأوسط ومن بين الأقدم من أي دولة غير عربية. حيث تختلف هذه التعدادات عن التعدادات العثمانية المعاصرة للقرن الـ19 التي سجلت عدد الذكور البالغين فقط للضرائب وأغراض التجنيد العسكري.

وفقا للمؤرخ التركي كمال كاربات، تم إجراء أول إحصاء عثماني لأجزاء معينة للإمبراطورية سنة 1831 ولكنه كان تعداد الأسر، ثم تم إجراء التعداد الثاني 1844 وكان للذكور البالغين، وحين قررت الإمبراطورية أن تشمل النساء في تعدادها كان في عام 1893، لكن صالح يخبرنا أن التعدادات المصرية في عهد محمد علي وإسماعيل كانت للجميع. حيث أمر محمد علي باشا بإجراء تعداد وطني فيقول: “إن إجراء التعداد يعود بالنفع على الوطن ومن يدرك مزاياه يجتهد في سبيل تنفيذه بالجسد والروح”.

مسح ضوئي لسجل قرية بيجيرم وكفر الشيخ منصور محافظة الغربية 1847
مسح ضوئي لسجل قرية بيجيرم وكفر الشيخ منصور محافظة الغربية 1847
كيف كنا قبل الاستعمار:

بدأت الاستعدادات من قبل الجيش في جمع معلومات سكان الريف، ثم امتدت هذه العملية إلى سكان المدن في عام 1847. لكن ظلت هذه التعدادات تقتصر على وحدات جغرافية متفرقة. وكان على مصر أن تنتظر ما يقرب من عشرين عاما حتى تحصل على ثاني تعداد واسع النطاق في (1865-1869) في عهد الخديوي إسماعيل. على الرغم من أن التعداد الثاني أكثر توسعا إلا أنه لم يشمل جميع السكان في مصر.

وعلى الرغم من ذلك هناك مشكلة قابلت صالح تتعلق بمدى حصر التعداد الفعلي للسكان في مصر. في عام ١٨٤٨، ذلك أنه نسبة السكان التي تم حصرها نحو ٩٢٪. وأغلب المحافظات تم حصرها في ١٨٤٨ بما فيها جنوب الصعيد والواحات والعريش والقصير. لكننا سنجد أن تعداد محافظة الغربية أغلبها مفقود وكذلك السويس. وفي ١٨٦٨ نسبة الحصر كانت أقل بكثير وهذا يرجح أن الدولة لم تستكمل التعداد لسبب ما أو أنها استكملته لكن السجلات فقدت. لكن نتيجة لهذين التعدادين تم إنشاء قوائم موحدة سجلات التعداد على المستوى الفردي.

سنجد عدة أمثلة يشاركها معنا صالح في مقاله عبارة عن جزء من البيانات الفردية من واقع السجلات التي تم ادخالها لتكوين قاعدة بيانات للسكان على مستوى الأفراد في ١٨٤٨ و١٨٦٨. لكن نظرا لضخامة عدد السكان نحو ٤ ونصف مليون نسمة في ١٨٤٨ كان من المحتم أخذ عينة ممثلة للسكان في جميع المحافظات.

***

 

المعلم أنطونيوس لوقا: ذكر، حر، سليم البدن، رب أسرة، 40 عاما، داخل سيطرة الحكومة، قبطي مسيحي، من أبوتيج في أبوتيج أسيوط، كاتب في دائرة الجمارك في بولاق.

العنوان: 15 حارة العزبة من درب الجنينة “شياخة” يوسف علم، “حي” الأزبكية، محافظة القاهرة.

نوع المسكن: وقف أقباط.

مردوخ يوسف: ذكر، حر، قوي الجسد، رب أسرة، 25 سنة/ داخل سيطرة الحكومة، يهودي، من القاهرة، صائغ ذهب.

العنوان:35 حارة اليهود القارئين “شياخة” الخضر إبراهيم “حي” باب الشعرية

محافظة القاهرة.

نوع المسكن: بيت مملوك لورثة إبراهيم خضر.

سلمان عبدالرحيم: ذكر، حر، قادر، رب أسرة،45 سنة داخل سيطرة الحكومة، مسلم، من طوخ- قنا، مزارع.

العنوان: منزل سلمان عبد الرحيم حصت ناصر عليوة، قرية طوخ، محافظة قنا.

أيضا تتخذ هذه السجلات أبعادا ونظاما حديثا، ذلك أنه يوجد سجلات تخص المهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين والفارين من قراهم لمدن وقرى أخرى دون إذن الحكومة، والذين يسكنون في المقاهي والحمامات والأكواخ.

فنعرف أن 70% من سكان القاهرة والإسكندرية عاشوا في منازل مقابل 16% عاشوا في منازل منخفضة وأكواخ والساحات والغرف الفردية.

بينما 7% عاشوا في مساكن متعددة الأسر وحوالي 3% عاشوا في مواقع الإنتاج وأماكن العمل مثل المقاهي والحمامات.

رقمنة التعدادات السكانية التاريخية بالعينة هو أمر معتاد في البحث العلمي. تم أخذ عينات عند رقمنة التعدادات الأمريكية التاريخية. حجم العينات المصرية ٨٠ ألف فرد في كل من ١٨٤٨ و١٨٦٨. هذه العينة تمثل ٨-١٢٪ من سكان القاهرة والإسكندرية ونحو ١٪ من سكان المحافظات. بالمقارنة العينات الأمريكية في القرن ١٩ تترواح بين ١ و٥٪ من السكان.

من الذي ألهم محمد علي باشا:

يتساءل محمد صالح في بحثه عن سبب إجراء الحكومة المصرية تعدادا لسكانها في هذا الوقت. يخبرنا أنه لا إجابة محددة لمثل هذا السؤال لكنه يفترض أن مثل هذا الفعل مهم للتحكم/ السيطرة على المواطنين مثل كل التعدادات السابقة والمعاصرة التي قدمت على أساس تحصيل الضرائب والتجنيد العسكري والعمل بالسخرة للمشاريع العامة. لكن ما يعيق هذا الافتراض هو حصر الإناث والأطفال وإدراج مثل هذه المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية، تكهن صالح أن السبب في ذلك أن الفكرة جاءت مع الطلاب الوافدين من البعثات التعليمية في أوروبا في النصف الأول من القرن الـ19 وكانت مناسبة لسياق لنهضة محمد علي باشا. ويخمن أن الفنيين الأوروبيين الذين كانوا يعملون في الإدارة المصرية في ذلك الوقت ربما لعبوا دورا في هذه العملية.

إعادة رسم الخريطة:

توفر العينات التي تم ترقيمها حديثا لعامي 1848 و1868 مصدرا ثريا لمعلومات عن السكان المصريين في القرن الـ19 يمكن أن تفيد الباحثين في تخصصات مختلفة دراسة أنماط الخصوبة والوفيات والزواج والهجرة.

أيضا علماء قياس مستوى الحياة ومؤرخي الشرق الأوسط للاستفادة من العينات الرقمية في فحص الرق والتحديث والتعليم. كما يمكن لعلماء الأنساب الاستفادة من هذه العينات في استكشاف تاريخ العائلات في مصر. كما يمكن للباحثين في العلوم المكانية لمدن الشرق الأوسط إعادة بناء خريطة مكانية مفصلة للمدن المصرية في القرن التاسع عشر.

تفتح عينات هذا التعداد عن إمكانيات جديدة تماما لدراسة التاريخ الاقتصادي والاجتماعي لمصر والشرق الأوسط في هذه الحقبة.

مصادر:

1- مقال محمد صالح عن رقمنة التعداد السكاني لمصر في القرن الـ19

https://www.tandfonline.com/doi/abs/10.1080/0161544

2- مصدر أوامر محمد علي باشا للتعداد

https://www.tandfonline.com/doi/abs/10.1080/13530199708705646?src=recsys

اقرأ أيضا

«زمان»: معرض رقمي لأفيشات الأفلام من العصر الذهبي للإسكندرية

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر