بلدوزر «الحكومة» يواصل دهس جبانات القاهرة

إذا أراد مخرج أن يستكمل رائعة أسامة أنور عكاشة ومحمد فاضل (الراية البيضا)، فإن المشهد الافتتاحي للرواية التليفزيونية الجديدة سيكون مشهدا واقعيا من قلب القاهرة، لهدم البلدوزر الحكومي للمقابر في جبانات المدينة خلال الأيام الجارية. ليتحول المسلسل الاستشرافي الذي أنتج العام 1988، إلى أيقونة معبرة عما يجري الآن لجبانات القاهرة من هدم ممنهج بهدف القضاء على القيمة التراثية لصالح منطق التطوير العقاري الذي لا يعترف إلا بالفراغات المساحية ويعجز عن إقامة علاقة صحية مع مدينة ذات طبيعة خاصة ومعقدة مثل القاهرة.

أطلقت الحكومة خلال الساعات القليلة الماضية البلدوزر مجددا ليواصل الهدم في جبانات الإمام الشافعي والسيدة نفيسة. ليكون ذلك هو الرد العملي على مناشدات العديد من الخبراء والمتخصصين والمهتمين بتراث جبانات القاهرة، والذين طالبوا بضرورة الحفاظ على نسيج الجبانات العمراني المتجانس، والبحث عن مسارات أخرى لخطط التطوير وبناء شبكة الطرق. لكن الحكومة يبدو أنها حسمت أمرها بإطلاق خطة دهس تراث فريد من نوعه، ليس في مصر وحدها بل على صعيد عالمي أيضا.

***

ونشرت صفحة “البصارة” المعنية بتراث مصر، صورا تظهر علامات إزالة لأحواش تراثية في ترب الشافعي منذ أسبوع. وهو  ما تزامن مع وقائع غريبة بلا تفسير بدأت تضرب المقابر التراثية داخل الجبانات، وهي مقابر تقع في مسار الإزالة أو قريبة منه.  إذ اكتشف محمد عبد الملك، أحد موثقي القرافة الشباب، خلال زيارته لمقبرة أحمد شوقي، أمير الشعراء، بترب السيدة نفيسة، أن مجموعة ممن أطلق عليهم ساكني المقابر المجاورة “حرامية”، كسروا التركيبات والشواهد في الحوش أو المدفن الخاص بأسرة حسين بك شاهين والد زوجة أحمد شوقي، باستثناء التركيبات الخاصة بضريح الأخير.

من صفحة البصارة
من صفحة البصارة

ما حكاه عبد الملك على صفحته ووثقه بمجموعة من الصور المفزعة لحجم الدمار الذي لحق بحوش حسين بك شاهين، يثير مخاوف المهتمين بجبانات القاهرة من أن يكون ما جرى مقدمة للتعامل مع الأحواش التراثية التي يراد نقلها إلى موضع موحد يضم الأضرحة وتراكيبها الخاصة بالمشاهير ويعرف باسم مقبرة الخالدين، وهو أمر طرحته الجهات الرسمية لكنها لم تعط أي تفاصيل عن الأمر فظل كيانا هلاميا بلا أي أطراف.

فما جرى على يد (مجهولين) أطلق عليهم لفظ (الحرامية) يبدو مخططا إذ تم تدمير تركيبات الحوش باستثناء شاهد قبر أحمد شوقي، وبالتالي سيكون من المنطقي أن تبرر الحكومة عملية نقله إلى مقبرة الخالدين بحجة الحفاظ عليه، والخوف أن يكرر (الحرامية) فعلتهم في أحواش تضم قبور محمود سامي البارودي وعلي مبارك وغيرهما من المشاهير، عبر تحطيم كل ما حولهم من شواهد وتركيبات، تمهيدا لنقل مقابر المشاهير إلى مكان جديد وإزالة ما يتبقى من المقبرة ما يسهل من عملية استلام الأرض التي يتوقع أن يتم استغلالها استثماريا.

***

إبراهيم طايع، مؤسس صفحة (جبانات مصر) وأحد موثقي القرافة، عبر عن مخاوفه مما يجري في الجبانات هذه الأيام قائلا لـ “باب مصر”: “المنظر العام محزن جدا ومفجع، والخوف من أن يتكرر ما حدث في ضريح أحمد شوقي مع غيره من الأضرحة، فالواضح أن الخطة هي العمل على ألا يتبقى إلا أضرحة المشاهير بعد عزلها عن محيطها، بإزالة كل ما حولها من أضرحة، ثم القول إن وجود تراكيب ضريح الشخصية المشهورة تحتاج إلى النقل إلى متحف أو مقبرة العظماء للحفاظ عليها، وبطبيعة الحال سيؤدي هذا إلى إزالة معالم القرافة”.

وكشف طايع عن أوضاع الجبانات مع بدء عمليات الهدم الجديدة قائلا: “شاهدت إعادة الهدم في ترب السيدة نفيسة وترب الإمام الشافعي الجمعة الماضي، ودخلت ضريح أحمد شوقي ووجدت كل التراكيب فيه دمرت باستثناء تركيبة ضريح أحمد شوقي، أما في منطقة الشافعي فتم البدء بهدم أسوار عدة أحواش تم نقل جثامينها بالفعل، ورأيت إزالة شباك قبة كلزار تمهيدا لإزالتها على ما يبدو، كما تم إخراج جثث مدفونة في حوش معاتيق إبراهيم حلمي بن الخديو إسماعيل، تمهيدا لإزالته خلال ساعات، وعلى مدخل الحوش لوحة حجرية تأسيسية بخط عربي جميلة كتبها الخطاط عبد الله عمر”.

وأشار صاحب صفحة (جبانات مصر) إلى أن حوش معاتيق إبراهيم حلمي “إذا تم إزالته فسيكون مؤشرا خطيرا، لأن أمامه يقع حوش الدراملي وحوش آل العظم، ما يعني تهديدهما بالإزالة، كذلك سمعنا من الأهالي المتواجدين في القرافة أنه سيتم البدء في إزالة ضريح إسماعيل سليم ناظر الجهادية خلال ساعات، كما تم هدم ضريح بجوار الحوش الذي يتواجد فيه قبر محمود سامي البارودي، ما يعني أن الأخير بات مهددا هو الآخر، ولن اتفاجئ إذا رأيت (الحرامية) دخلوا ودمروا التراكيب المحيطة بتركيبة قبر البارودي كما حصل مع أحمد شوقي”.

مقبرة محمود سامي البارودي مهددة تصوير: محمد عبد الملك
***

عملية الإزالة الجارية في ترب الشافعي والسيدة نفيسة، تأتي بعد أن عقد الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، اجتماعا مع اللجنة المختصة بوضع رؤية التطوير الخاصة بمنطقة جنوب القاهرة التي تقع فيها الجبانات، 10 أغسطس الجاري، ونقل بيان الحكومة الرسمي، عن مدبولي قوله إن “هذه المنطقة تحظى بأهمية بالغة، ضمن خطة الدولة لتطوير المناطق التاريخية والأثرية، ومن ثم فهناك حرص شديد على أن تتم عملية التطوير وفق منظورٍ متكاملٍ يُراعي كافة الأبعاد التاريخية والتراثية والديموغرافية والسياحية”.

لكن ما يتم على الأرض يبدو بعيدا عن اللغة التي حملها الخطاب الرسمي. بل يكشف عن البون الواسع بين الحكومة التي ترى أن تفريغ الجبانات من نسيجها العمراني ليس بالأمر السيئ بل والمطلوب في رؤيتها التي ستؤدي لا محالة إلى إزالة مساحات واسعة من الجبانات وتحولها إلى شرائح منفصلة تتخللها كباري وطرق وربما منشآت استثمارية لا تمت لطبيعة الجبانات بصلة، وبين مجموعة المتخصصين والمهتمين الذين يرفضون بشكل واضح وصريح مخططات الحكومة التي ستؤدي إلى إزالة الكثير من معالم الجبانات، وتدمير تجانسها العمراني وعدم مراعاة الخصوصية التاريخية والتراثية للمكان، وهو الأمر الذي يتحقق على الأرض بصورة فعلية مع استمرار البلدوزر في عمليات الهدم التي يبدو أنها ستترك الجبانات خلفها جثة ممزقة الأوصال.

وجود لجنة حكومية مشكلة من خبراء لتقييم الموقف وبحث مصير الجبانات، ووضع تصور الكامل لمنطقة ترب الشافعي والسيدة نفيسة والإباجية، والتي تشكلت بقرار رئاسي في يونيو الماضي، لم يمنع من استمرار الهدم. فلم تصدر أي بيانات أو تقارير للجنة الخبراء تلك حتى تاريخه، يمكن من خلالها استطلاع موقفها، أو ما توصلت له من نتائج وتوصيات بشكل واضح ومحدد. بل أن الأمل الذي صاحب تشكيل هذه اللجنة بالتوقف مؤقتا عن أعمال الهدم في ترب الإمام الشافعي وترب السيدة نفيسة، سرعان ما تبدد الخميس الماضي مع عودة الهدم إلى سيرته الأولى، ليبدو أن جميع المهتمين بالجبانات قد رفعوا الراية البيضاء أمام هجوم البلدوزر الحكومي الذي لا يعرف التعقل.

اقرا أيضا:

القرافة في السينما.. واقعية لم تستغل السحرية

ألغاز القرافة.. حساب الجُمّل فن منسي

بساتين القرافة.. ثروة خضراء مهددة

بطن القرافة.. مشاهدات خيري شلبي في الجبانة

قبل الكارثة.. جرد أولى لـ مقابر القاهرة التراثية المهددة

«حوائط القرافة».. خبايا تاريخية تنتظر التنقيب

هشاشة القرافة.. لعنة التاريخ ورسائل الحكومة

أسفار الجبانة.. شهادات تاريخية تدين المحو الحكومي

الخطوط الذهبية.. روائع القرافة المنسية

الباب السحري.. القرافة مفتاح كتابة تاريخ مصر

جبانات القاهرة.. متحف مفتوح للعمارة المصرية

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر