جراج الحاكم.. المزحة التي أصبحت كابوسا!

فندق وجراج متعدد الطوابق أمام جامع الحاكم بأمر الله جريمة أخرى في حق القاهرة وآثارها وتراثها

مزحة تناقلها بعض محبي القاهرة التراثية، حول نية الحكومة المصرية إنشاء جراج داخل حرم المدينة المسورة أي الحرم المحدد بالأسوار الفاطمية- الأيوبية. عندما سرت الشائعة تعامل معها الجميع كمزحة ثقيلة، فلم يكن لأي عاقل أن يتصور أن هناك من يفكر في بناء منشأة مثل الجراج داخل المدينة التاريخية. لكن ما كان يتداول كمزحة صار حقيقة كابوسية، إذ تجري حاليا عملية بناء جراج أمام جامع الحاكم بأمر الله وباب الفتوح وأسوار القاهرة الشمالية.

***

في أكتوبر 2021 دخلت الجرافات قاهرة المعز، لتزيل المحلات والعقارات التي وقفت في مواجهة جامع الحاكم بأمر الله في شارع المعز، وقيل وقتها إن إزالة هذه المحلات التجارية يأتي في إطار مشروع ورؤية أكبر لتطوير القاهرة التاريخية، كانت ولا تزال هذه الرؤية محل انتقادات عميقة، مبنية على سوء ظن في الحكومة، ثبت أنه كان من حسن الفطن، فما يحدث الآن في القاهرة التراثية تحت مسمى التطوير يتحول مع الوقت إلى عملية تخريب للنسيج العمراني للمدينة ويحولها إلى مدينة بلاستيكية بلا أي روح، متحف مفتوح حيث الآثار منتصبة بلا روح ولا علاقة لها بما حولها، تتحول الآثار التي عزلت عن وظائفها إلى مجرد مسوخ بلا روح في زمن استهلاكي.

شيء من هذا يحدث الآن على قدم وساق في المنطقة الواقعة بين جامع الحاكم بأمر الله وباب الفتوح؛ المساحة التي تم تفريغها من المنشآت قبل عامين، فأعمال البناء تجري الآن لبناء جراج متعدد الطوابق تحت الأرض، وفوقه سيتم إنشاء فندق بملامح استشراقية غريبة عن روح المدينة، وبلا أي نسب تحافظ على مستوى الرؤية للجامع أو بوابة القاهرة الشمالية التي سيحجبها الفندق المزمع بنائه في المكان، بأدوار مرتفعة لا ترعي محيطها الأثري.

ولا أحد يعرف مدى تأثير أعمال الحفر والبناء الجارية حاليا على سلامة منشآت أثرية ذات قيمة تاريخية لا تقدر بثمن سواء مئذنتي جامع الحاكم بأمر الله أو باب الفتوح، وهي آثار تقترب في مجموعها من تخطى عتبة الألف سنة ما يعني حاجتها لمعاملة من نوع خاص يحافظ على طبيعة هذه الآثار الهشة، فهل هذا يتوفر مع تكثيف حركة السيارات بخلق جراج في مواجهة جامع الحاكم وباب الفتوح؟ ولا نعرف مدى تأثير جلب حركة سيارات بعوادمها على الآثر المحيطة بالمكان، لكنه تأثير في النهاية لن يكون إيجابيا بأي حال من الأحوال، كما يضرب الجراج بمشروع منع دخول السيارات في شارع المعز وتحويله لشارع مفتوح قبل ثورة يناير 2011، عرض الحائط.

***

لا أحد ضد التطوير كمبدأ، لكن ما يحدث الآن على يد مجموعة لا تعلم شيئا عن تاريخ المدينة، ولا طبقاتها التاريخية المتعددة، ولا تفهم خصوصية تراثها ولا فلسفة البناء للعمائر التاريخية التي تزين المدينة، هو تدمير ممنهج لتراث المدينة تحت لافتة التطوير سيئة السمعة، والمدهش أن كل هذه الاعتداءات على القاهرة التاريخية تأتي والأخيرة مسجلة على قائمة التراث العالمي منذ العام 1979، لكن يبدو أن منظمة اليونسكو الأممية قد فضل أن تلعب دور من لا يسمع ولا يرى ولا يتكلم.

جريمة ضد القاهرة التاريخية
جريمة ضد القاهرة التاريخية

ما يحدث أمام جامع الحاكم بأمر الله وباب الفتوح، جريمة تراثية لا تقارن إلا بما حدث أمام قلعة الجبل، عندما أراد رجل الأعمال الراحل محمد نصير بناء أبراج عالية في محيط القلعة، بما يهدد نسيجها العمراني ويحطم رمزية القلعة ويشوه المنظر من حولها، فضلا عن خطورة أعمال الحفر لوضع أساسات الأبراج والمشروع الضخم على المنشآت الأثرية في القلعة ومحيطها، وقتها دشنت حملات من مهتمين من خلفيات مختلفة، لحماية القلعة من هذا العبث، واستخدم مداد الحبر لمواجهة طغيان المال، الذي أراد تشويه محيط أثر بحجم قلعة الجبل وتهديده.

شيء مثل ذلك يحدث الآن داخل القاهرة التاريخية المسجلة على قوائم التراث العالمي، والتي تتعرض لانتهاكات خطيرة تحت مزاعم التطوير، فما يحدث خطير على منطقة تاريخية تتخطى الألف سنة، إذ نجد جامع الحاكم وباب الفتوح وما يجاورهما من منشآت وملحقات في مواجهة تعديات خطيرة، خصوصا أن الأمر يتم التسويق له من باب الإنجازات الحكومية، فالدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، زار المنطقة في يونيو الماضي، وصعد فوق باب الفتوح لمشاهدة ما يجري من مشروع ترى فيه الحكومة تطويرا!

***

يبدو أن الحكومة والقائمين على عمليات التطوير لا يعرفون ولا يعلمون تاريخ المنطقة التي يتم إخضاعها كرها لتصورات متخيلة تجر المنطقة الأثرية لمنطق تجاري بحت لا يعي خطورة ما يتعامل معه ولا حساسيته، هنا نذكر ببعض المعلومات التاريخية التي يبدو أنها لا تلقى أي اهتمام عند المسؤولين عن تطوير القاهرة التاريخية في مفارقة تكشف عن أسباب الاستياء الواسع من تدخلات الحكومة ومن يعمل معها تحت لافتة (مشروع تطوير القاهرة التاريخية)، فجامع الحاكم بأمر الله بني في الفترة الفاطمية المبكرة ، أي قبل نحو ألف عام، وتعرض لعمليات ترميم كثيرة أهمها في على يد بيبرس الجاشنكير سنة 703هـ/ 1303م، بينما يعود باب الفتوح لأعمال أمير الجيوش بدر الجمالي، وتحديدا سنة 480هـ/ 1087م، تاريخ إنشاء هذا الباب.

هذا التاريخ المركب للمنطقة يفترض أن يكون محل تقدير وعناية ورعاية. لا أن يتم بناء جراج بما يعني حركة سيارات مكثفة واهتزازات دائمة وعوادم متصاعدة لها بلا شك تأثيرها المدمر على الآثار المحيطة بها. وهو أمر يكشف كيف تفكر الحكومة ومن يعمل معها من خلال مفهوم التطوير العقاري، الذي سيؤدي لا محالة للإضرار بالأثر. فمثلا كان يمكن أن يتم بناء فندق صديق للبيئة في مواجهة جامع الحاكم، بارتفاع لا يتجاوز الثلاثة أدوار مع حذف فكرة الجراج العبثية تماما، وقتها سنكون قد حققنا مفهوم التطوير الذي يحافظ على الأثر. لكن ما يحدث الآن هو تبديد للتراث المصري وتعامل لا يليق به ولا بمكانته ولا بطبقاته التاريخية، فنحن أمام جريمة أخرى من الجرائم المتتالية في حق القاهرة وآثارها وتراثها.

اقرا أيضا:

بلدوزر «الحكومة» يواصل دهس جبانات القاهرة


للاشتراك في خدمة باب مصر البريدية اضغط على الرابط التالي:

Babmsr Newsletter

النشرة الإخبارية الشهرية
النشرة الإخبارية newsletter
مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر