ماجدة الجندي: سيدة السرد الصحفي الجميل

سلاما على من يمرون على حياتنا في هدوء، ورقة وعذوبة حاملين معهم اللطف، والمحبة، وروح المسؤولية الفردية، والهم العام في صدق، دونما تكلف، ولا شعارات، وكلمات كبيرة مستمده من ثقافة السماع عن بعض المتون الإيديولوجية الكبرى. لاسيما اليسارية أيا كانت مصادرها ومصادرها الفلسفية والسياسية وتجاربها المقارنة.

هؤلاء غالبا ما كان دفاعهم عن الصالح العام، والانتماء الوطني، والسعي للارتقاء بالوعي الجمعي للأغلبيات الشعبية، تعبيرا عن حساسية شعورية، وفكرية مرهفة. دونما تزيد أو مبالغات، وبعضهم – وهم قلة – حولوا المبادئ العامة للوطنية، وحب الوطن، والتقدم، إلى عالم التفاصيل اليومية، وحياة الناس. دونما تكلف أو استعلاء، لأنهم يعشقون الوطن من خلال شعبه، وأغلبيته من الجموع الغفيرة، وداخل هذه الجموع. يركزون على الحكايات الصغيرة للكفاح من اجل الحياة المعسورة عند الحافة.

بعض هؤلاء، وخاصة في تاريخ الصحافة المصرية، ذهبوا إلى التفاصيل، والحكايات التي تبدو ظاهريا بسيطة وعادية، ومحاولة استنطاقها، دون مبالغات.

من هؤلاء كانت صديقتنا الغالية ماجدة الجندي، زوجة الروائي الكبير جمال الغيطاني، منذ عملها بمجلة صباح الخير، وروز اليوسف، وفي الأهرام.

**

ركزت ماجدة الجندي، على باب “الأفيش” في صباح الخير، منذ دخولها إلى كلية الآداب جامعة القاهرة.

من هنا كانت كتابة ماجدة تركز على حساسية النظر إلى الصورة، واستنطاق تفاصيلها. وما وراءها بحثا عن الجوهري فيها، بنية الصورة، ومكوناتها أعطت لماجدة نظرة بعيدة، وحساسية لغوية، في كتابتها، ومقالاتها وعروضها للكتب، وحواراتها مع بعض كبار الكتاب العالمين.

اللغة الصحفية لماجدة، بدت مختلفة عن نظائرها في السرد الصحفي من الصحفيين والصحفيات. لغة بها خصوصية مائزة، تتميز بعدم التكلف، والسلاسة، والتشويق. في الانتقال من جملة لأخرى ومن فقرة إلى فقرات، التحقيق أو أسئلة الحوار، أو المقال.

لغة مشخصنة، ومتواشجة مع الموضوعية النسبية في النظرة إلى الصور في الحياة. وقصص العاديين المعبرة عن حياتنا، في تألقها النادر، وفي التراجيديا اليومية للبسطاء.

غلاف كتابها الأول "كما تدور عجلة الفخار"
غلاف كتابها الأول “كما تدور عجلة الفخار”

كتابة سعت أيضا لحمل هموم الطبقة الوسطى في صعودها. من خلال التعليم، والثقافة، وتفككها مع تحولات السياسية، والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية. وتراجع قيمة الثقافة لدى المصريين من عصر الانفتاح إلى الرأسمالية النيوليبرالية كجزء من هموم هذه الطبقة، وأزماتها. وطموحها الذي انكسر، ومعه القيم التي حملتها، ثم ضاعت مع موجات التغير الاجتماعي التي قلبتها رأسا على عقب.

اقرأ أيضا| جمال الغيطاني.. البصير الذي رأى كل شىء

**

اللغة المشخصنة لدى ماجدة العزيزة، هي أقرب إلي لغة الذات الساردة صحفيا. وربما مرجع ذلك مدرسة صباح الخير، وصحفييها وكتابها، ونمط كتابتهم الصحفية، التي تميزت بالسلاسة، والوضوح، وعدم التكلف أو الولع بالكلمات الكبيرة، والفصاحة اللغوية. لأنها تخاطب القارئ الشاب، والأجيال الجديدة، في لحظة، صدورها، وتطورها الصحفي. في مواجهة نمط من الكتابة التي تعتمد على الفصاحة اللغوية، والكلام الكبير، الذي يفسر كل شيء، ولا يفسر شيئا!

كانت تكتب، وكأنها تخاطب كل قارئ على حده، وتهمس له وتحاوره، وتخاطب عقله ومشاعره من خلال فصاحة البساطة.

السردية الصحفية لماجدة، كانت مستمدة أيضا من قراءتها للأدب، ومتونه. سواء من خلال اللغة الفرنسية، أو العربية، لعديد من أدباء العالم الكبار، والعالم العربي، ومصر. وأيضا أعمال زوجها المبدع الكبير صديقي جمال الغيطاني رحمه الله. وهي لغة خاصة، ومن خلال مكتبته العامرة، بالكتب في الأدب، والفنون البصرية والتشكيلية المصرية، والعالمية لكبار المصورين العالمين في الفن التشكيلي، والنحت.

لاشك أن هذه المصادر ومجاورتها لسارد كبير في الأدب المصري والعربي. جعل لغتها قريبة من جماليات الأدب، ومجازاته، في أهاب لغتها الصحفية الأسرة.كانت تكتب بإحساس مرهف عبر ذاتها العارفة بالناس والعالم، وتحاور كبار الكتاب، وتعرض الكتب المهمة لقارئها.

كانت كتابتها الصحفية، تعبيرًا عن زهو الصحافة المصرية، وصباح الخير، وروزاليوسف، على الرغم من السياجات العميقة التي كانت مفروضة سلطويا حول العقل الصحفي الحر، والحريات العامة. وعلى رأسها حرية التعبير، على نحو أدى إلى جمود اللغة الصحفية، في معتقلات اللغة الصنمية، ذات النفس الشعاري الكريه. إلا أن قلة القلة من الصحفيين استطاعوا المناورة مع هذه القيود المفروضة، وكتبوا لغة متحررة. لأنها لغة الذات العارفة التي تخاطب قارئها في لطف وسلاسة ووضوح وجمال أسلوبي.

**

لغة ماجدة الجندي، وكتاباتها لم تخرج من معطف زوجها جمال الغيطاني، ولا من وهج شهرته وذيوعه وإنما من حالة المجاورة كزوج وأب لماجدة ومحمد، ومن ذاتها. ومن هنا لم ترد أن تدخل عالم السرد الروائي، والقصصي، وإنما اختارت الفن الصحفي أن يكون مسرحها الكتابي الذي تجيده، وتعرف وتنتشر من خلاله. استمرت لغة ماجدة تتطور على الرغم من انتقالها بعد زهاء عشرين عاما من مدرسة روزاليوسف وصباح الخير إلى الأهرام العريق. ثم من خلال رئاسة تحرير مجلة علاء الدين، إلى عالم الطفل الذي كان يعيش في حناياها. وكانت وقت رئاستها للمجلة، متميزة في إدارتها واختياراتها للرسامين والكتاب، وسكرتير التحرير الفنان الكبير اللامع، والمثقف ذو الرؤى الجمالية الشابة وعيونه اليقظة على واقعه، وعالمه أحمد اللباد. ثم قامت بإنشاء صفحة غذاء العقول لعرض الإنتاج الفكري، والإبداعي من الكتب الجديدة، لكي يتعرف القارئ عليها،

بعد ذلك كانت تكتب مقالاتها المتميزة بصفحة الرأي بالأهرام وكان أسلوبها ولغتها ومجازاتها أحد أبرز أدواتها في إعلان حضورها المتوهج، وسط كتابات آخري. كان سمتها الأساسي هي اللغة الرائجة، الخشنة، والعامة والسائلة والمسكونة بسياجات قمع العقل، والموالاة والشعاراتية إلا قلة قليلة من كبار العقول الصحيفة الأعرق عربيا ومصريا.

كانت لغة وسردية ماجدة الجندي هي حضورها في حياتنا. ومن الشيق ملاحظة أنها صديقة ودودة، ومحبة لأصدقائها، وعارفي فضلها. وسيدة منزل كريمة المعشر مع أصدقاء الأسرة حتى بعد رحيل زوجها، وصديقنا الغالي جمال الغيطاني “جيمى” كما كنت أسميه.

ستظل ذاكرتنا تحمل لماجدة الجندي حضورها الجميل، وكتاباتها المشرقة. السلام لروحك ماجدة العزيزة.

اقرأ أيضا

علاء خالد يكتب: كانت تمتلك نسخة حديثة من النوستالجيا

د.محمد أبوالغار يكتب: ذكريات مع ماجدة الجندي              

عماد أنور يكتب: وش الخير وصاحبة البشرى

محمد الغيطاني يكتب: وردة كل يوم

ماجدة الغيطاني تكتب: «أن تُحِبُكَ ماجدة»

ماجدة الجندي: من سيرة البدايات في «صباح الخير»

أحمد اللباد يكتب: في شرفة مكتب «الأستاذة»

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر