«خُطُّ الصعيد» في تركيا

لا توجد كلمة «الخط» في تركيا، إنما توجد كلمة (Leskiya) وتعني معجميا (قاطع الطريق) ولكن ترجمتها بهذا المعنى لا تفي بالدلالة ـ كما يقول “عبدالقادر عبد اللي” في ترجمته لكتاب الفتوة ليشار كمال. وهي ذات وقع حسن على الأذن في مناطق جنوب شرق وجنوب غرب تركيا. حيث تجري أحداث حكاية “التشغرجوي”، وهي أقرب بدلالتها إلى مفردة “فراري” التي تستخدم في سوريا. ومفردة “المطاريد” المستخدمة في اللهجة المصرية.

الكلمة في حد ذاتها ليست مهمة بل ما توحي به من دلالات. ومن ثم يجب اختيار كلمة يستوعبها الذهن المصري بشكل أفضل، وتتفاعل معها الذاكرة الحضارية أو الذاكرة الشعبية. وقد اختار مترجم الحكاية كلمة “الفتوة” لتعبر عن اللقب التركي، ورغم وجود تلك الكلمة في المعجم الشعبي الجنوبي بدلالة متقاربة. لكننا لا نفضِّل استخدام تلك الكلمة، لأنها في الذاكرة الشعبية ترتبط بصورة الفتوات الذين يقيمون في المدن أو الحارات الشعبية. لا هؤلاء الذين يعتصمون بالجبال ويعيشون في الأطراف الجنوبية البعيدة. وتأسيسا على ذلك تكون كلمة “خط الصعيد” هي الأقرب لوصف بطل الحكاية. نظرا لارتباط الحكاية بجبال جنوب شرق وغرب تركيا ارتباطا وثيقا. وبدون ذلك البعد الجغرافي تسقط الحكاية ولا تقوم لها قائمة. كما أن مصطلح الخط هو الأقرب للغاية الأساسية من تلك القراءة. وهي فهم ظاهرة خط الصعيد ورصد تجلياتها وهي تنعكس في مرآة النموذج التركي المتكامل. في ظل أجواء جغرافية واجتماعية وتاريخية متشابهة. حيث كان القطر المصري جزءا من الكيان العثماني لقرون طويلة.

1ـ مفتاح الحكاية

حكاية محمد التشغرجوي أحد أكبر المطاريد في تاريخ الإنسانية. تبدأ بالجاويش حسن وكأن مفتاح الباب لعالم المطاريد، هو الشرطي الشرير الذي يعذب القرويين ويلفق التهم لأغراض شخصية.

تبدأ الحكاية بالجاويش وهو يدخل القرية قاصدا منزل “التشغرجوي” الأب الذي كان ينتمي إلى عالم المطاريد وتم العفو عنه. في مقابل أن يترك الجبل ويقيم في القرية إقامة مستقيمة.

كان الجاويش حسن يطارده أيام العصيان، لكنهما صارا صديقين بعد أن نزل إلى السهل، رغم المثل الشعبي التركي الشهير الذي يقول “لا يمكن الوثوق بالعثماني” أي بالعسكري العثماني. والذي يشبه المثل المصري الذي يقول “لو كان دراعك عسكري اقطعه”. وهو على الأرجح ينتمي إلى العصر العثماني، لأن السياسات واحدة في البقاع العثمانية سواء كانت في ريف مصر أو في ريف تركيا.

***

“التشغرجوي” الأب كان يثق في الجاويش الحسن الذي كان يلجأ إليه ليساعده في ملاحقة قطاع الطرق. وكان الخط يبادر إلى مساعدة الشرطة في المهمات القتالية التي تطلبها منه. وفي تلك المرة ذهب إليه هو وأفراد دوريته بدعوى مساعدته في القضاء على مجموعة من قطاع الطرق هاجموه وهرب من كمينهم، وفي الحقيقة كان يسحب “الخط” إلى كمين كي يقتله.

بعد أن تناول أفراد الدورية قدرا من الطعام، قاموا ومعهم التشغرجوي الأب لمطاردة قطاع الطرق. وعندما وصلوا إلى منطقة بعيدة قام أفراد الدورية بتصويب بنادقهم باتجاه التشغرجوي وقتله.

هكذا نشأ “الخط” الوليد على قصة الغدر الذي تعرض له والده، والتي كانت تعاد على مسامعه يوميا، مع صوت نواح أمه الذي لم ينقطع بمضي الوقت.

يكشف المقطع هنا علاقة السلطة بالمطاريد. والتي تقوم على التحالف معهم أحيانا لضرب مطاريد آخرين، واعتبارهم جزءا من منظومة الأمن. حيث يتم العفو عنهم مقابل التخلي عن الجريمة ومعاونة الشرطة في القضاء على “المطاريد” الذين يتمسكون بحياتهم في الجبال. وهكذا ويسمح لهم بالعودة إلى قراهم، لكن “المطاريد” بسبب شعورهم بالقرب من السلطة، وخدمتها. ونظرا لتاريخهم وقوة شخصياتهم سرعان ما يجعلون أنفسهم زعماء محليين. ويصبحون حكومات داخل الحكومات، وهنا تنقلب عليهم السلطات وتقتلهم بالمكر والخديعة، تلك هي الإستراتيجية العثمانية في التعامل مع المطاريد.

2ـ وسوسة الأمهات

أنهى محمد التشغرجوي المدرسة الابتدائية، وبعد أن درس سنة أو سنتين في مدرسة “أودمش”، ترك الدراسة. والتقطه “الحاج أحمد” أحد المطاريد المعروفين، وكان صديقا لوالده، وقام برعاية الطفل. وتحت شعار “فرخ الذئب ذئب منذ الأزل” علمه ركوب الخيل، وحمْل السلاح الناري، والتصويب. وكانت أمه تشجعه، وتحكي له عن بندقية الأب المطعمة بالصدف والموجودة الآن في حوزة الجاويش حسن. ولم تكن الأم تتوقف عن الحديث عن الأب صقر الجبال وارتجاف “العثماني” أمامه، وأفراح يوم نزوله من الجبل. حيث تعيِّد القرية وتعرس، لأنه “كان يجلب معه جهازات البنات الفقيرات، ويدفع المهور عن الشباب، ويغدو دواء للمرضى، وخبزا للفقراء” هكذا تزين الأم صورة الخط، وتعمقها في وجدان الذئب الوليد.

3ـ ثقافة الثأر وسطوة المعايرة

قام الحاج أحمد بتدريبه على الرماية، وعلمه أسرار الجبال، وعرفه على المكامن التي صنعها أبوه بيده. وبدأ محمد حياته في مجال التهريب، وأصبح يحظى بمكانة بين المهربين، ولم يسقط في فخ، ولو مرة، طوال حياته. وعندما اشتد عوده طلب منه الحاج أحمد أن يثأر له من خادمه الذي عشق زوجته وهرب بها إلى “أودمش”، وبالفعل قام محمد بخنق العشيقين. لكن الشرطة ممثلة في الجاويش حسن الذي قتل والده أجرت تحرياتها وتوصلت إليه بعد عدة أشهر من البحث. وتم إلقاء القبض عليه، وأرسل إلى سجن “إزمير”، لكنهم بعد فترة أخلو سبيله لعدم كفاية الأدلة. وهذا يحدث حرفيا مع كبار المجرمين في الصعيد. حيث تبدأ حياتهم بجرائم لا توجد أدلة كافية عليها، ويدخلون السجن فترة، ثم يخلى سبيلهم لعدم كفاية الأدلة، وبعدها يخرجون لممارسة نشاطاتهم المجرمة، حتى تنتهي حياتهم في تبادل إطلاق النار مع الشرطة.

بدأ صيته يرتفع، لكنه بدأ يعاني من المعايرة والتحريض على الثأر لوالده، وكان الناس يقولون:

ـ “انظروا إلى ابن أحمد التشغرجوي، قاتل والده يجول ملوحا بيديه، وهو ينظر هكذا، تفوه على رجولته”، ثقافة الثأر والمعايرة بالدم ليست خاصة بالصعيد، بل هي ثقافة إنسانية يمكن أن نجدها في الأرياف بشكل عام.

***

بدأ الجاويش حسن يشعر بالخوف. وكي يزج به في السجن، لفق له قضية سرقة، وذهب إلى بيته ولم يجده، وتشاجر مع أمه وقام بإهانتها بألفاظ جارحة، ومد بندقيته إلى ما بين فخذيها، وراح يهددها بقتل ابنها كما قتل والده. حتى أنها مرضت بعدها، وأرسلت إلى ولدها تخبره أنها لا تستطيع مواجهة الناس، وتحرضه على قتل الجاويش حسن. وتحذره من الحضور إليها قبل الانتقام لأبيه وأمه.

صار الجاويش حسن يتعقب الولد بجدية كبيرة، وكان يقوم بتعذيب القرويين كي يدلوه على مكانه. وفي نفس الوقت كان الولد يتعقبه، وبالفعل، قام الخطُّ الوليد بعمل كمين للشاويش حسن أدى إلى مصرعه. وأصاب أحد الضابط، وحاول الحصول على بندقية والده المطعمة بالصدف والتي أخذها الجاويش حسن يوم قتل والده، ويقدمها لأمه، لكنه لم يستطع.

بسبب تلك الواقعة أصبح الذئب الصغير كبيرا وذائع الصيت عند الحكومة، التي راحت ترسل أمهر الضباط لملاحقته. لكنه كان ينتصر على كل قوة تلاحقه. وصار صيته يتنامى، ويغدو رمزا للخوف المختلط بالمحبة عند القرويين، وخوفا فقط عند الدوريات والأغوات.

وهنا تتطابق حكاية الخطًّ التركي مع أنداده الصعايدة، الذين تبدأ مسيرتهم الحقيقية بجريمة مقاومة السلطات، والإفلات بها.

4ـ الخُطُّ صناعة الوجهاء والأعيان

يلعب الوجهاء والأعيان دورا كبيرا في صناعة “الخط”، لأنهم أنصاره وضحاياه في نفس الوقت. فمنهم من يتحالف معه، ويقدم له المال، والمأوى، ويستغل نفوذه ويدافع عنه عند السلطة نفسها، لأنه يحتاج إليه لحمايتهم من المطاريد، أو لمهمات خاصة لا يجيدها سوى أولاد الليل والجبال. وأكثر هؤلاء حاجة إليه كانوا أعيان البدو الرحل. فإذا لم يكن عند الرحل مطاريد، فهذا يعني أن جناحهم مكسور، ومُستباحون أمام بقية المطاريد الذين تعج بهم الجبال.

ومن الأعيان نوع يناصبه العداء، ويحاول التخلص منه. خاصة الأعيان الذين يظلمون الناس في ظل النظام العثماني الذي يسمح بتلك المظالم بحكم طبيعته، أو يسيئون استخدام سلطاتهم في وقائع ينكرها النظام لكنه تحدث في الواقع. وهم الذين يقوم بمهاجمتهم وسرقة أموالهم وتوزيعها على الناس.

كان من أعوانه خليل بك، الذي كان جده متسلم الضرائب، وعائلته تعتبر حكومة المنطقة منذ عهدها بالحياة. هي حاكمة ابنة حاكمة منذ نشأتها، وإذا كانت الحكومة تؤمن عيش الوجهاء. فإن المطاريد يؤمنون هذا أيضا، وقد قابله خليل بك في بدايته، وشجعه وقال له “يا فتوة، لا تقلق من شيء، طالما نحن هنا، فهذا يعني أن يدا لك في إزمير، وأخرى في “أودمش”، وأخرى في اسطنبول، في قصر السلطان”.

بداية المغامرات

يبدأ “التشغرجوي” مغامراته مع الوجهاء باختيار أشدهم ظلما للفقراء، وأكثرهم تنكيلا بهم، وهو مصطفى أغا، وينجح في دخول مسكنه. ويشهر في وجهه البندقية ويستولي على ألف وثلثمائة قطعة ذهبية تعتبر ثروة كبيرة. وبعدها يذهب إلى إحدى القرى ويسأل عن عدد المخطوبين والعرائس الفقراء في القرية. فيحضرون له أربع عشرة فتاة وسبعة شبان، ويعطى لكل بنت عشرة ذهبيات، من أجل جهازها. وهو يقول “الخط يعني الأب” ويعطى لكل شاب خمس عشرة ذهبية للمهر. ثم ينتقل إلى قرية أخرى وخلال خمسة أو ستة أيام تجول مع عصابته على اثنتي عشرة قرية. جهزوا الفتيات، ودفعوا المهور للشبان، وثمن الدواء للمرضى، وثمن الخبز للفقراء. وهكذا يرتبط الخوف منه بمحبة المستفيدين منه، وتلعب تلك المحبة دورا كبيرا في حمايته، وتوفير المأوى وقت اللزوم. وهو ما نجده في بعض حالات المجرمين الكبار في الصعيد مثل “الحمبولي”.

الخط التركي يقدم لنا نموذجا يحتوي في داخله على مقاطع من حياة أنداده في الصعيد. فيصبح مثل المرآة التي تقدم صورة متكاملة للظاهرة، لا نجدها على هذا النحو المتكامل عندنا. ومن هنا نخرج من حكاياتهم ـ معدومة أو محدودة التفاصيل في الغالب ـ بنتائج غير دقيقة ويصعب علينا استيعاب الظاهرة بشكل جيد. مع التقرير بوجود طبيعة خاصة للنموذج التركي لا تجعله يتطابق تماما مع النموذج الصعيدي.

اقرأ أيضا:

«خط الصعيد».. علامة رمزية وظاهرة عالمية

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر