أين ذهبت النزارية بعد الحسن الصباح؟

ربما يسأل المشاهد لمسلسل «الحشاشين» عن مصير جماعة الحسن بن صباح، الرجل الذي أقام دعوة مذهبية باسم الإسماعيلية النزارية الشيعية، وأسس دولة ألموت التي سار بذكرها الركبان وتردد صداها في جنبات التاريخ العالمي. يسأل البعض ما هو مصير الحسن؟ وإلى ماذا انتهت هذه الدعوة التي اشتهرت بذراعها التنفيذي المرعب أي الفداوية الذي عرف شعبيا باسم “الحشاشين”؟ وهل لا تزال لهذه الجماعة بقية في يومنا هذا؟ وإذا كان لهم بقية فبأي شكل وبأي منطق؟ لكن المفاجأة أن مصريين يعرفون بعض المعلومات عن جماعة النزارية في صورتها المعاصرة دون أن يدركوا ذلك!

***

إذا ذهبت يوما إلى أسوان ستجد قبة على أعلى جبل مبنى بطراز إسلامي بسيط يميل إلى فن القباب الفاطمية. ذلك هو قبر الآغا خان الثالث وزوجته البيجوم أم حبيب. في حين إذا أردت أن تتنزه في القاهرة المعزية، فسيكون أحد الخيارات المتاحة أمامك هو الذهاب إلى حديقة الأزهر في قلب القاهرة القديمة، والتي أشرفت على عمليات إنشائها مؤسسة الآغاخان الرابع كريم الحسيني؟ ما علاقة هذه المعلومات بقصتنا عن حسن الصباح الذي مات في قلعته العام 518هـ/ 1124م، وجماعته الإسماعيلية النزارية؟

التاريخ ماكر يصنع روايات وانعطافات في قصصه أفضل من أي أديب حصل على نوبل في الآداب، هو الروائي الأكبر. لأن ينسج من قلب فوضى الأحداث التاريخية دراما رفيعة الطراز. يستخدم المفاجأة والصدفة والانعطافات غير المتوقعة بحذق درامي يثير دهشة المتابع دوما. هنا نكشف عن واحدة من قصص التاريخ المدهشة بتوضيح العلاقة بين الآغا خان ذلك الرجل الذي يبدو في صورته الحديثة أقرب إلى لورد إنجليزي. وتلك الجماعة التي أثارت الرعب يوما في قلب أعتى ممالك الدنيا.

***

سنعود في التاريخ إلى العام 487هـ/ 1094م، أي إلى لحظة وفاة الإمام الإسماعيلي والخليفة الفاطمي المستنصر بالله في القاهرة. إذ انقسم أتباعه في تحديد هوية الإمام التالي في أئمة المذهب الإسماعيلي الشيعي، بين فريق قال بإمامة ابنه الأكبر نزار. وفريق قال بإمامة ابنه الأصغر أحمد الذي تولى الخلافة الفاطمية في مصر بلقب المستعلي بالله. أما نزار فقاد محاولة عسكرية لتولي الحكم انطلاقا من الإسكندرية. ولكنها فشلت بسبب تصدي الوزير القوي الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي له. وتم التخلص من نزار ببناء جدار عليه داخل قصر الخلافة الفاطمية في القاهرة.

في تلك اللحظة لم يعترف الحسن الصباح بإمامة المستعلي، واعترف بإمامة نزار الملقب بالمصطفى لدين الله. وأعلن الصباح من مقره في حصن ألموت (شمالي إيران)، تأسيس الدعوة الجديدة باسم الإسماعيلية النزارية. وعين نفسه داعيا مطلقا أو حجة للإمام الغائب. أي كقائد أعلى يجمع بين السلطة السياسية والدينية للحركة، واستمرت هذه الدولة التي تكونت من مجموعة من القلاع الحصينة في إقليم ردوبار. وفي مقدمتها قلعة لامسار، لنحو 166 عاما أي حتى 654هـ/ 1256م، عندما نجح القائد المغولي هولاكو في تدمير قلاع الإسماعيلية النزارية، وفي مقدمتها قلعة ألموت الحصينة.

لكن في عهد الحاكم الرابع لدولة ألموت جرى تغيير مهم في صبغة الحكم. إذ أعلن الحسن الثاني أنه من نسل الإمام نزار، وبدأ عصر ظهور الأئمة النزارية، وإن كانت بعض الشكوك تحوم حول صحة نسبه وترى أنه ابن محمد بن بزرك أميد. على كل حال منذ لحظة الحسن الثاني الذي يضاف له لقب “على ذكره السلام”، أصبح حكام ألموت يعلنون الانتماء إلى نسل نزار العلوي.

حكام ألموت:

عصر الحجج:

حسن بن صباح (483- 518هـ/ 1090- 1124م)

كيا بزرك أميد (518- 532هـ/ 1124- 1138م)

محمد بن بزرك أميد (532- 557هـ/ 1138- 1162م)

عصر الأئمة:

الحسن على ذكره السلام (557- 561هـ/ 1162- 1166م)

نور الدين محمد بن الحسن (561- 607هـ/ 1166- 1210م)

جلال الدين الحسن بن محمد (607- 618هـ/ 1210- 1221م)

علاء الدين محمد بن الحسن (618- 653هـ/ 1221- 1255م)

ركن الدين خورشاه بن محمد (653- 654هـ/ 1255- 1256م)

***

بعد مقتل ركن الدين خورشاه على يد المغول الذين أقاموا مذابح لآلاف النزارية، انتهت دولة ألموت رسميا. ولم ينج من هذه المذابح إلا قلة من النزارية وفي مقدمتهم شمس الدين محمد بن خورشاه. وأصبح الإمام الجديد للنزارية، وعاش متخفيا في أذربيجان، والذي نسجت الروايات الإسماعيلية المتأخرة حوله بعض الأساطير إذ جعلوه شمس الدين التبريزي المرشد الغامض للشارع الصوفي الكبير جلال الدين الرومي.

واستمر أئمة النزارية من بعد شمس الدين محمد بن خورشاه في دور الستر. أي دون الإعلان عن هويتهم الحقيقية لمدة قرنين من الزمان. بينما عاشت الجماعات النزارية في إيران كجماعات منفصلة بحسب ما يثبت مارشال هودجسون وفرهاد دفتري في دراساتهما. إذ اتبعوا مبدأ التقية لذا دخلت بعض الجماعات النزارية تحت مظلة جماعات صوفية واثني عشرية وانتشروا في وسط آسيا والهند، وهناك أدخلوا بعض الأفكار الهندوسية إلى المعتقدات النزارية الإسماعيلية.

وحدث انقسام آخر في تلك الفترة بين أتباع محمد شاه بن مؤمن شاه وأتباع قاسم شاه. ومؤمن شاه وقاسم شاه هما أبناء شمس الدين محمد بن خورشاه. واستطاع أئمة فرع محمد شاه أن ينتشروا في الهند، لكن هذا الخط من الأئمة انقطع بحلول القرن التاسع عشر الميلادي. لتستقر إمامة النزارية في فرع قاسم شاه الذين أعلنوا عن أنفسهم بشكل صريح بداية من علي شاه (المستنصر بالله الثاني) في نهاية القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي. من مقرهم في مدينة أنجدان في وسط بلاد فارس. وتميزت هذه الفترة بنشاط النزارية وسط انهيار الحكم المركزي في بلاد إيران ما بين العهدين التيموري والصفوي.

***

لكن الحكم الصفوي حمل نهاية لنشاط النزارية في تلك الفترة. إذ عملت السلطة الصفوية في القرن السادس عشر الميلادي، على اضطهاد ومحاربة كل الفرق التي تلعب على نفس خط أفكار الصفويين. وظل وضع النزارية قلقا معظم فترة الحكم الصفوي (1501- 1722م)، في تلك الأثناء انتشرت النزارية في الهند وعرفوا هناك باسم الخوجة. ولم يتحسن وضع النزارية في إيران إلا مع الدولة القاجارية (1785- 1925م). حيث مارس أئمة النزارية الحكم في إقليم كرمان لبعض الوقت.

تحالف أئمة النزارية مع الحكم القاجاري في إيران، لذا منح الملك القاجاري فتح علي شاه لقب الآغا خان إلى الإمام النزاري حسن علي شاه وزوجه إحدى بناته وعينه حاكما على مدينة قم الإيرانية. ثم عينه حاكما على إقليم كرمان، لكن سرعان ما تورط في ألاعيب السياسة ما أدى إلى هزيمته وبالتالي انسحابه من إيران كلها صوب الهند. حيث بدأ في عقد علاقات سياسية مع الاحتلال البريطاني في الهند، ووضع علاقاته السياسية في خدمة التوسع البريطاني هناك. إذ استقر الآغا خان الأول في بومباي الهندية. وهناك بدأ نشاطه الكبير لتثبيت نفوذه على الجماعات الإسماعيلية النزارية، الأمر الذي حسم بنزاع قضائي أصدر خلاله القاضي الإنجليزي حكما بزعامة الآغا خان على النزارية في الهند العام 1866م، وأقر الحكم تسميتهم بالشيعة الإمامية الإسماعيلية.

توفي الآغا خان الأول في إبريل 1881، وانتقلت الإمامة إلى ابنه آقا علي شاه، والذي حمل لقب الآغا خان الثاني ورحل سريعا العام 1885. ليتولى ابنه سلطان محمد شاه الذي عرف بلقب الآغا خان الثالث، وهو في الثامنة من عمره. وعلى يديه حدث التحول الأخير في مسيرة جماعة الإسماعيلية النزارية. إذ بدأ في الانتقال إلى أوروبا، وأصبح شخصية عالمية منخرطا في السياسة الدولية ومحافظا على روابط مع أتباعه في الهند وفي شرق إفريقيا. التي انتقلت إليها النزارية عبر طرق التجارة. كما أصبح متداخلا في السياسة الداخلية للهند فشارك في تحركات المسلمين في الهند بدايات القرن العشرين. كما تولى رئاسة عصبة مسلمي عموم الهند لفترة من الزمن. قبل أن يتولى رئاسة عصبة الأمم (سلف الأمم المتحدة) لدورة واحدة بداية من العام 1937م.

***

وبعد إمامة طويلة استمرت لنحو 72 عاما، توفي الآغا خان الثالث في سنة 1957، ورغم أنه توفي في مقره بجنيف إلا أنه سبق وأوصى أن يدفن في مقبرته المطلة على النيل بمدينة أسوان. وهي مبنية على طراز إسلامي مستوحى من القباب الفاطمية الشهيرة في ذات المدينة. وقد صمم هذه القبة المهندس المصري فريد شافعي، ولم يرحل الآغا خان الثالث إلا بعد أن رسخ مكانته على أتباعه الذين تواجدوا في العديد من الدول كأقليات دينية. إذ صاغ رؤية تقوم على أن الإمام له الزعامة الروحية على أتباعه، مع إعطاء الأتباع الحق في الاندماج في مجتمعاتهم حتى لا يصطدموا بالحكومات والأغلبية الشعبية هناك، مع الاهتمام بالمتابعة الروحية لهم وتوجيه الدساتير والفرمانات لهم في ما يتعلق بالرعاية الصحية والتعليمية. وسمح بتحركاته ومكانته العالمية في دمج الجماعة الإسماعيلية النزارية في المجتمعات الحديثة. وهو ما تابعه حفيده الإمام الإسماعيلي النزاري الحالي الأمير كريم شاه الحسيني الآغا خان الرابع.

تمتع الآغا خان الرابع بتعليم غربي رفيع المستوى إذ تخرج في جامعة هارفارد الأمريكية. وهو لا يزال على قيد الحياة، ويتمتع بمكانة عالمية مرموقة ويحظى بسيادة روحية ودنيوية على أتباعه في مختلف أنحاء آسيا والعالم العربي وإفريقيا وأوروبا وأمريكا الشمالية. (إذ انتقل العديد من الإسماعيلية النزارية إلى العالم الجديد خصوصا من شرق إفريقيا في فترة التحرر الوطني الإفريقية وتصاعد المشاعر المعادية للأجانب). وقد كرس زعامته الدينية بإصدار “دستور المسلمين الشيعة الإماميين الإسماعيليين” العام 1986، والذي شدد فيه على نقطة جوهرية في الفكر النزاري منذ أيام حسن الصباح. وهي الدور المركزي للإمام النزاري في تعليمه وإرشاده لأتباعه بما يملكه من سلطة مطلقة في كل ما يتعلق بالمسائل الدينية والدنيوية للنزاريين. وهو يستغل الموارد المالية الضخمة التي تتوافر تحت يديه بسبب تبرعات أتباعه الإجبارية في تقديم رعاية فائقة لهم. والتي تعبر عن نفسها في صيغة شبكة الآغا خان للتنمية، وفي القلب منها مؤسسة الآغا خان.

***

ونجح الآغا خان الرابع في تأسيس العديد من المؤسسات المرموقة. مثل معهد الدراسات الإسماعيلية في لندن 1977، وجامعة الآغا خان في كراتشي 1985. كما عرف عنه اهتمامه الشخصي بالحضارة الإسلامية فأسس العديد من المؤسسات في هذا الصدد وفي مقدمتها أمانة الآغا خان للثقافة 1988. وأسس جائزة الآغا خان في العمارة العام 1977، والتي تعد أرقى جائزة في العمارة الإسلامية على مستوى العالم حاليا. كما أسس برنامج الآغا خان للعمارة الإسلامية في جامعة هارفارد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا 1979.

كذلك أسس الأمير كريم الحسيني برنامج دعم المدن التاريخية 1990. ويرتبط هذا البرنامج في بعض فصوله بمدينة القاهرة. إذ هدف أساسا إلى الحفاظ على الأبنية التاريخية في المدن التاريخية المسلمة. وكان أحد المشاريع التي قام على تنفيذها البرنامج هو حديقة الأزهر الشهيرة بقلب مدينة القاهرة، والتي بنيت على منطقة من المزابل في المدينة والتي تراكمت على مدار نحو ألف سنة منذ الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله. وهو يعد بحسب المعتقد النزاري أحد جدود الآغا خان.

هكذا اكتملت قصة الإسماعيلية النزارية منذ لحظة ميلادها على يد الحسن بن صباح في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، والذي زار مصر في يوم بعيد، مرورا بتحولاتها في الزمن بين صعود وهبوط وشد وجذب. بين كونها رمزا يثير الرعب في فترة ألموت بميراث الفداوية أي الشباب الانتحاري الذي اغتال العديد من الشخصيات التاريخية وقتذاك. وبين تحولها إلى جماعة هامشية مفككة تعاني الاضطهاد والتضييق في فترات طويلة. قبل أن تعيد تنظيم نفسها في العصر الحديث كجماعة تعتنق الحداثة والتحديث. وتنخرط في سلام مع مختلف المجتمعات التي تعيش بين ظهرانيها. وذلك تحت قيادة الآغا خان الرابع الذي يرى أتباعه أنه ينتسب إلى الأئمة النزارية حكام ألموت. ويعد الإمام النزاري 49، والذي يخاطبه أتباعه بمولانا الإمام الحاضر!

اقرأ أيضا:

يسألونك عن الإسماعيلية والنزارية والحشاشين وأشياء أخرى

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر