«أمينة رزق» في أوراق قديمة منسية: جعلوني بطلة بالصدفة

في عام 1964 استحدث فتحي غانم بابا في مجلة «صباح الخير» بعنوان «أوراق قديمة منسية» استكتب فيه العديد من نجوم المجتمع في شتى المجالات الأدبية والصحفية والفنية والرياضية والسياسية، ليكتبوا بعضا من ذكرياتهم القديمة المنسية أو ورقة من سيرتهم الذاتية لا يعلم عنها أحد شيئا، فكان الباب نموذجا للسيرة الذاتية للعديد من المشاهير. هنا نزيل الغبار عن هذه الأوراق القديمة لنخرجها من بؤرة النسيان التي طالتها داخل أوراق الدوريات لتصبح أوراقا غير منسية. هنا أوراق الفنانة «أمينة رزق».

لا داعي لذكر الأسماء ولا الأماكن، فقد حدث هذا منذ زمن طويل، منذ أكثر من عشرين سنة عندما كنت طفلة صغيرة في فرقة رمسيس. ولست أدري ما الذي ذكرني بهذه الورقة المنسية في حياتي، فالفنان عادة لا يتذكر الإساءة، لأن عمله كفنان يجعله من أكثر الناس قابلية للاستفادة من الخطأ، وتحدي كل عقبة تقف في سبيله. ويوم حدثت هذه الواقعة كدت أهجر مهنة التمثيل إلى الأبد، لولا يوسف “بيه”. ويوسف بيه هو الأستاذ الكبير يوسف وهبي، وأعذروني فقد تعودت طوال عمري على مناداته بهذا اللقب.

***

كنا في رحلة إلى إحدى عواصم الأقاليم أو أحد الشواطئ، لست أذكر بالضبط. وكان المسرح الذي نزلت فيه الفرقة صغيرا، ليست به غرف كافية للفنانين والفنانات. لم أكن أعرف شيئا في ذلك الحين، قالوا لنا: “كل واحدة تختار لها أوضة”. فاخترت غرفة صغيرة وضعت فيها ملابسي وحاجياتي ثم تركتها لأمر ما.

ثم جاءت إحدى الممثلات الكبيرات وسألت عمن أخذ هذه الغرفة، فقالوا لها: “أمينة رزق”. وبلا سابق إنذار، ثارت الممثلة الكبيرة، فكيف تجرؤ بنت مثلي على احتلال غرفة كهذه؟! ولم تنتظر الممثلة عودتي ولم تبحث عن مكان آخر أو غرفة أخرى، بل اقتحمت الغرفة وأخرجت كل ما فيها من ملابس وألقت بها إلى الخارج.

عدت في هذه الأثناء لأجد حقائبي وملابسي وكل حاجاتي ملقاة على الأرض أمام الغرفة والجميع في ذهول، وباب الغرفة مغلق، وصوت الممثلة الكبيرة يدوي في الداخل: “ما نقصش غير البنت المفعوصة دي تاخد الأوضة، أهو ده اللي ناقص!”. يومها بكيت كما لم أبك من قبل، وصممت على الاستقالة من الفرقة، بل أكثر من ذلك، صممت على أن أهجر التمثيل إلى الأبد… لولا يوسف بيه.

***

يقولون عني إني أشجع الفنانات الناشئات، وأني أحبهن وأرعاهن وأقدر كفاحهن وأعاملهن كأخت كبيرة. وهذا صحيح، وربما كان السبب في ذلك هو تلك الورقة التي نسيتها والتي انطوت مع ما انطوى من العمر والذكريات. ولازالت كلمات يوسف بيه في تلك الليلة ترن في أذني.

إني أتذكرها الآن كأنها حدثت بالأمس: “إنت تبقى عبيطة لو هجرت التمثيل علشان حكاية زي دي. لو كنتِ فنانة بصحيح، لازم تستحملي أي عقبات في بدء حياتك. لازم تستمري وتكافحي وتثبتي لها ولغيرها إنك مش بنت مفعوصة، وكرامتك لن ترد بالاستقالة. كرامتك ترد يوم ما تفرضي نفسك على خشبة المسرح وتسيطري عليها”.

وخرجت من غرفة يوسف بيه ليلتها، ولم أجد أمامي سوى غرفة المكياج… وضعت فيها حقائبي وحاجاتي، وكنت أنتظر حتى ينتهي الممثلون من وضع المكياج لأغير ملابسي، وكنت أذهب مبكرا لأستعد قبل موعد رفع الستار بساعة على الأقل.

والأوراق كثيرة وعديدة، ويكفي أن أجلس قليلا لأفكر في الماضي حتى تبزغ منه عشرات بل ومئات الحكايات. وقد تغير مجرى حياتي بالفعل عندما كانت فرقة رمسيس تستعد للسفر في رحلة إلى شمال إفريقيا. كنت صغيرة جدا، لا أستطيع الاغتراب دون أن تكون معي أمي، لكن يوسف بيه رفض. لم يكن ممكنا أن تتحمل الفرقة نفقات السفر والإقامة، ولم أكن أملك في ذلك الوقت سوى عشرة جنيهات، حملتها إلى يوسف بيه وطلبت منه أن يأخذها نظير سفر أمي. طبعا رفض يوسف بيه، واضطررت أنا للاعتذار عن السفر.

***

وهنا لابد أن أقف قليلا، فلو أني لم أسافر في تلك الرحلة، لفاتني الكثير ولخسرت في مستقبلي وحياتي مالا يمكن أن أتصوره الآن. فقد اتفق يوسف بيه مع بطلة الفرقة أن تتناوب الظهور في أدواري الصغيرة. وبـدأ الاستعداد للسفر، وبدأت أنا الأخرى أنكمش في انتظار عودة الفرقة.

حتى بقى يوم على موعد السفر. ماذا أقول؟ هناك مثل سائر يقول: “مصائب قوم عند قوم فوائد”. فرغم المحاولات العديدة التي قام بها الأستاذ يوسف وهبي قبل ذلك لحملي على السفر مع الفرقة دون أن أصحب أمي، ورغم إصراري العنيد على عدم السفر بدونها، إلا أن عيني لي كانت في النار وأخرى كانت في الجنة. وكان الصراع في صدري قد بلغ أشده وأنا أشهد الاستعداد للسفر: استخراج الجوازات، الملابس، المناظر، السفينة.. إلخ.

ومن الممكن أن أحكي لكم قصة الخلاف التي حدثت بين إحدى بطلتي الفرقة وبين الأستاذ يوسف وهبي، ولكن قصة الخلاف لا لزوم لها على أي حال، فقد حدث. وركب العناد رأس كل منهما، ركب يوسف وهبي بالذات رأسه وأصر على عدم سفر هذه البطلة. ولم يكن باقيا على الموعد سوى يوم واحد، ولم يكن أمامه من ينقذ هذا الموقف غيري. وفي ساعات قليلة كان كل شئ قد أعد. في ساعات قليلة كان جواز سفري وجواز سفر أمي قد جهزا، وكانت حقائبنا قد أخذت إلى الإسكندرية، وفي اليوم التالي كنا نركب البحر في الطريق إلى شمال إفريقيا.

***

ولكنكم تتساءلون عن سر كل هذا الاهتمام الذي أبديته لهذه الورقة المنسية. كانت هذه في الحقيقة هي فرصتي، لقد لعبت دور البطلة الكبيرة، كما لعبت أدواري الصغيرة الأخرى. غير أني في هذا الدور الكبير كنت قد صعدت سلما مليئا بالدرجات نحو النجاح. لقد أصبحت في تلك الرحلة التي كادت تفوتني نجمة، ومن يومها وأنا ألعب أدوار البطولة.

 

                                 27 أغسطس 1964

اقرأ أيضا:

«كامل الشناوي» في أوراق قديمة منسية: ليلة في ميناهاوس

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.