صورة.. في هوى البحر

لم يكن المُضي إلى شواطئ البحر محض ترف ورفاهة، أو مجرد تمضية أوقات مرحة ومبهجة، أو نزهة عابرة وفقط. بل ظل ارتيادهم جزءا عضويا من حياة الناس اليومية ومسراتهم.

لذا صار فضاء البحر، أحد الينابيع المُلهِمة للشعر والرواية مرورا بالسينما. حيث ترددت أصداء البحر في عديد من الأنواع الإبداعية.

**

ومن زاوية أخرى، اجتذبت شواطئ البحر كافة الفئات والشرائح الاجتماعية. فعرفها البسطاء من الناس مثلما عرفها نجوم المجتمع في الفن والأدب والسياسة. حيث حفلت الجرائد والمجلات بأخبار وصور تلك النماذج الأثيرة لدى العديد من الناس تحديدا، حينما اعتادت الوزارة قبيل يوليو 52 وفي إثرها أيضا، تمضية العطلة السنوية صيفا بالإسكندرية. تلك المدينة الأسطورة التي حلمت بها الأميرة أوروبا، فرقدت في صدفة كبيرة لتبحر بها. ثم لترسو أخيرا بالإسكندرية، والتي اختصها نجيب محفوظ في رائعته “ميرامار” الإسكندرية قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع.

لقد تمتعت الإسكندرية بكورنيش مديد. حيث تناثرت الشواطئ ذات المساحات الرملية الرحبة والتي تكتظ بالمظلات زاهية الألوان، والكبائن التي تصطف كبيوت متجاورة. حيث وفد إليها من وفد من أرجاء وربوع القطر المصري، والمقيم من أنحاء المدينة، فرارا من هجير بيوت فقيرة، أو بيوت مكيفة موسومة بالثراء دونما تمييز، لإنفاق بضعة أيام محملة بالغبطة والنشوة. فصارت “بُغية القاصدين” حيث حظيت بأُلفة ووداعة أخّاذة وحميمية متفردة، وسحرٍ آسر.

تذكار
تذكار

شهدت شواطئ البحر، مشاهد عديدة ، أبرزت مشاعة البحر لكافة هذا التنوع البشري. وأن القسمة بين فئة اجتماعية وأخرى محض وهم وزيف خالص، فرغم أن النجوم والوجهاء قد احتلوا شواطئ ستانلي وسيدي بشر والمعمورة، فإن جموع غفيرة تسكن أطراف المدينة، عرفت الطريق لتلك الشواطئ وغيرها.

**

عائلات بصحبة أطفال حفاة يستر أجسادهم الشاحبة بالكاد لباس البحر. يحملون المظلات وما خصّهم من أمتعة، زحفوا من عزبة “زعربانة” الفقيرة والمجاورة لأحياء رشدي وجليم الراقية. يعبرون شارع أبي قير نحو الشواطئ الدانية في مرح وسعادة. حيث تماثل ذلك مع سكنى ضواحي وأحياء البسطاء والتي تدنو من شواطئ سيدي بشر وكليوباترا والشاطبي.

ومن المشاهد اللافتة، أن العديد من الناس لا تعبأ بشيء، لا النساء السافرات، ولا الراية السوداء الكائنة بالمنصة العالية، ولا وصايا رجل الإنقاذ، ولا….. ليس سوى الهوس بالبحر وصخب الموج ولهو الأطفال والسباحة حتى البراميل أو تجاوزها وحمامات المياه العذبة بالشاطئ. ولعب “كرة المضرب”، وطواف بائع الفريكسا بين المظلات. وسعي مصوراتي الشاطئ بزيه المميز القميص والشورت الأبيض والقبعة العريضة، تتصدر صدره كاميرا كبيرة، البعض يزاول مهنته منفردًا، وآخر يعمل لدى ستوديوهات شهيرة، ستوديو برودواي بشارع شريف، وبايرون بشارع اسطنبول، وإيلاديو بشارع بيلوز بالإبراهيمية.

لذا، برز الشغف بالتقاط الصور في مظاهر متنوعة، صور استعراضية. صور العائلات وغيرها، تعلن عن رهافة الحس ودفء المشاعر، وتبوح بروح نابضة. وأمل في ذاكرة أبدية تقاوم المحو والفناء، وعاطفة تستنهض الزمن في كتابة خلف الصورة: “تذكار لذكرى خالدة. أخذِت الصورة بشاطئ سبورتنج يوم 15/7/1946 أنا وخالتي نادرة وتوفيق أفندي وابنهما عوض” حسين زكي. وفي كتابة ثانية: “مات عوض غرقا 10/8/1947 ورحلت خالتي نادرة في 13/10/1949 كمدا. وفي ذات العام أودِعَ عمي توفيق مستشفى الأمراض العقلية” حسين زكي.

اقرأ أيضا:

ما جرى في منزل حمامة عنتر

للاشتراك في خدمة باب مصر البريدية اضغط على الرابط التالي:

Babmsr Newsletter

النشرة الإخبارية الشهرية
مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر