بورتريهات متخيلة (12): عبد الله محمود.. تلك النظرة

جاء عبد الله محمود ليغرس تلك النظرة أمام الكاميرا ويمضي، نظرة من يُدين له الوجود باعتذار ما، إشارة إلى خطأ أزلي لا يمكن إصلاحه أو الاعتذار عنه، مع ذلك ظل ينشده بكل ما في اليأس من أمل، لذا لا لؤم فيها ولا مرارة. إنها محض نظرة، وهي كل ما يملكه من هبة.

ما أسعد من يصير حزنه مفتاح روحه ومرآتها، حيث يمكن لنا أن نتفهم كل خطاياه، ما أتعس من كان حظه كله في إيماءة، كأنه حبيس نظرته، لو وشت بشيء آخر كالفرح لاتهمناه بخيانة المعنى، لانصرفنا عنه واعتبرنا أن ما أفصحت عنه عيناه، محض ثرثرة ولغو، فتلك النظرة النادرة هي كل ما نحتاجه من اللغة.

**

كسماء غائمة مغلقة على ذاتها، كحواف مصقلة بالظنون، كظل شبح يجوس في الطرقات، نيجاتيف لصورة، كمن فقد داخله كائن كان بحوزته ثم عاش باقي عمره غريبا عنه. هل خفة روحه أصيلة؟ أم أن الحياة ثقيلة بما يكفي كي يبدو في مواجهتها بتلك الخفة؟ هل يؤمن بشيء؟ هل يظننا محض أحلام؟ هل يعرف أننا لم نره إلا كحلم، أننا اخترعناه؟ هل يعلم أنه دون تلك النظرة لا أحد؟

**

لا فارس ولا وغد، لا يملك رغبة أو ضدها، بل وعي خالص بهزيمة الذات. باستسلام يكظم عذاباته، لو نطق لانكسر، لذا سار بيننا بعمر مبتور. تلك النظرة المشؤومة التي عادت بخفي حنين هي لابن موت. متى عرف؟ متى استعد؟ هل أنكرت أذناه النبوءة عندما ارتج صداها داخله؟ أم أدركها مبكرا فصمت وواصل رحلته إلى اللاشيء، هادئا كاليأس؟

**

أن تسير بإرادتك إلى الفشل ومتهيئا له بكامل عدتك، هو أفضل بديل للانتحار. كأحمق وجد أخيرا بهجته، أنتج في نهاية أيامه فيلما شديد السوء ليصير بطله. كأحمق قرر أن يتحدث في اللحظة الخطأ، أن يغامر في الوقت الخطأ، رهان الكل في الكل، عوض حياة أنفقت بكاملها للتدرب على مشهد وحيد، الموت.

**

لولا أن بيننا حزن صبي على تلك الشاكلة، مرتجف مثل عصفور، لو صمت كل أفعالنا بالعار. حزن عاجز بلا انتقام يعقبه، بل عواء أخرس كأنشودة محفوفة بالمخاطر، صاعدة من الأعماق، من الذاكرة وقد تصلبت كلها على منبع الحسرات، من الحسرات وقد وعت حماقتها فارتدت كلها إلى الداخل.

**

بلا تجعيدة واحدة، هذا ما فر به على جناح لحن لا ندركه، تلك هي كل غنائمه.

في السماء استقبلته آلاف الدفوف، حررته من ضغائن الليل، فأفصح عن كل شيء.

اقرأ أيضا:

بورتريهات متخيلة (11): أحمد عدوية.. سلطان الغنا الشريد

 

 

 

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر