مي التلمساني: «الكل يقول أحبك».. رواية

«الكل يقول أحبك» عنوان اختارته مي التلمساني لروايتها الجديدة التي تصدر خلال أيام عن «دار الشروق». العنوان- حسبما قالت مي-  مستوحى من أحد أفلام ودى آلان (Everyone Says I Love You)  ومن أغنية أمريكية شهيرة في الثلاثينيات. تدور أحداث الرواية بين مصر وأمريكا وكندا لترصد الروائية إشكاليات عديدة من بينها البعد عن الوطن الأم والصراع الناشئ عن ازدواجية الهوية الثقافية. سبق أن أصدرت مي ثلاث روايات «دنيازاد»، «هليوبوليس»، «أكابيلا»، وثلاث مجموعات قصصية: «نحت متكرر»،«خيانات ذهنية»، «عين سحرية».. فضلا عن عدد من الدراسات والترجمات. هنا مقطع من الفصل الثاني من الرواية:

كان البهو معتما على غير العادة. يسقط فوق الشراعة الزجاجية الممتدة بطول الباب نور شحيح لا يكفي لكي أتبين محتويات الحقيبة الصغيرة. أفتشها بحثا عن المفاتيح ثم أفتش جيوبي مرة ثانية ويتأكد حدسي. اختلط علي الأمر وأحضرت مفاتيح شقة وندسور بدلا من مفاتيح بيت تورونتو. أقف بالباب مترددا. هل أضغط على زر الجرس؟، ربما يصحو الولدان. آدم تحديدا متقلب المزاج، لو صحا من نومه عنوة سيظل مستاءً حتى الفجر وسندفع ثمن استيائه غاليا، أنا ونورهان ومالك. ترى هل نورهان مستيقظة؟، ثمة نور مضاء في المطبخ. ونور خافت يتسلل من غرفة الولدين بالطابق الثاني. فيما عدا هذا، لا شيء. اتصلت بنورهان على الموبايل، جاء صوتها رنانا حازما. تكره التليفون. تقول باقتضاب: من فضلك أترك رسالة. ترددها مرة بالإنجليزية ومرة بالفرنسية ثم تقول اسمها الأول وترن الصفارة. هل نامت؟، أنقر بعقلة السبابة عدة مرات على الباب الخشبي وأصيخ السمع. لا حركة. لا صوت. أفتش في جيوبي ثانية بحركة آلية. فجأة ينفتح الباب ويهب هواء دافئ من الداخل.

  • اللعنة! ماذا تفعلين؟

تقف نورهان بالباب حافية القدمين ترتدي روب من الساتان الخمري محكما بحزام من نفس اللون حول الخصر وفي يدها مضرب هوكي. تستعد بشكل مثير للضحك للانقضاض على سارق وهمي. سارق مهذب، يطرق الباب قبل أن يسطو على المنزل.

  • وأنت ماذا تفعل؟ ماذا حدث؟

تدعوني للدخول وهي تهمس: تعال. نسيت المفاتيح ثانية؟ لا تتوقع إجابة. تنظر في ساعة معصمها وتسأل: هل انتصف الليل؟

قبل أن توصد الباب وتنحي المضرب جانبا، ترمي بصرها باتجاه شباك مطبخ دونالد. تعرف أن جارنا العجوز لا ينام إلا على صوت ثلاجته القديمة. تتصوره وهو يغط في النوم جالسا على مقعد بمسندين قريبا من طاولة المطبخ، وعند قدميه تغفو كلبته العجوز لوسي من فصيلة التشاو تشاو بشعرها المشمشي الكثيف وملامحها الأرستقراطية.

رائحة بامية باللحم والثوم.

  • كيف حالك يا حبي؟

أقبلها قبلة سريعة على خدها قبل أن تنسحب من المدخل لتفسح لي مكانا. أعلق معطفي في الصوان المواجه لباب الدخول وأضع حذائي أمام الباب المفضي للجراج وأتقدم على أطراف أصابعي فتئز الأرضية الخشبية تحت وقع قدمي.

في المطبخ، رائحة الأرز بالشعرية تأتيني كأنها نفحة من الجنة. أكشف الغطاء عن طاجن البامية فتتصاعد منها بقايا أبخرة وتنز العصائر على سطح قطع اللحم البقري مخلوطة بالبهارات والكزبرة والثوم والزبد.

– رأيت سيارة الشرطة عند مدخل الشارع. هل حدث جديد؟

– حادث سرقة هذه المرة. سطوا على المنزل 71.

– أليس لدي السكان جهاز إنذار؟

– لديهم كلب. لكنه بصحبة أهل البيت في فلوريدا.

تحدثني مديرة ظهرها لي. تغرف الأرز أولا في صحن عميق ثم تضع فوقه اللحم والبامية، تماما كما أحب. تضع الصحن على صينية وتضع إلى جواره طبق السلاطة الخضراء وملعقة وشوكة وسكينا ومنشفة ورقية ملونة وزجاجة مياه غازية “بيرييه”. تحمل الصينية وتسبقني إلى غرفة الجلوس. أتبعها وأنا أتأمل ظهرها تحت الروب الساتان وكعبيها الحافيتين يضيئان في العتمة مثل أرنبين صغيرين يقفزان فوق حشائش حديقة في الليل.

أضيء نور الأباجورة وأراها تضع الصينية على مائدة صغيرة وتقربها من الكنبة، ثم تنحني وتلتقط شيئا من الأرض وتبتعد هاتفة:

– آدم يا ربي! ألعابه في كل مكان.

– ابقي معي قليلاً.

مستعطفا أرجوها أن تطيل الليل. أشتاق إليها ولا أخفي اشتياقي. تعرف، وتبطئ من خطوها لتجلس في مواجهتي.

  • أصحو غدا في السابعة صباحا، ثم تضيف بغنج: أصبحنا غدا.

تجلس واضعة ساقا تحت إليتيها والساق الأخرى فوق فخذها. ينحسر طرف الروب وتبرز ساقها الملساء وأصابع قدمها الصغيرة مطلية بطلاء أظافر أزرق. أتمنى لو أقبل كل إصبع على حدة، لو تتركني أمص أصابعها الدقيقة بعد العشاء. الساعة جاوزت الواحدة صباحا، وهي صامتة تقاوم النعاس وتفكر في إمكانية الهرب. أقبل على الطعام بنهم وأسألها عن الولدين.

– حبيبي آدم مدعو لحفل عيد ميلاد أندرو ظهر السبت. ومالك مشغول كعادته، يستعد لمسابقة التمثيل.

– هل اختارت المعلمة مشهدا من مسرحية؟

– نعم. اختارت مونولوج من مسرحية لكاتب أمريكي من أصل مصري. أظن اسمه ستيفن. ستيفن جرجس.

تسبق كلمة “حبيبي” بالعربية اسم آدم الصغير. لا تقول حبيبي مالك ولا حبيبي كريم إلا نادرا. أحيانا تناديني بكلمة “بابا” فأغضب. لا أريد أن ألعب هذا الدور. أريد أن تضعني دائما في مكانة الزوج أو الحبيب.

مالك الابن الأكبر، تقسو عليه أحيانا ولا تقوى على فراقه أبدا. لا ينام في بيت أصدقائه، لا يغيب عن حضنها في الليل. تتحدث معه قبل أن تذهب للفراش ربع ساعة كل يوم، تزيد أو تقصر. تدخل الغرفة بهدوء، تجلس على طرف الفراش وكأنها تستجدي القرب منه. أحيانا يذاكر ولا يلتفت إليها. وأحيانا يلتفت على الفور ويتحدثان. يضحكان، يتشاكسان، لكنها لا تناديه بكلمة حبيبي. مع مالك تمارس دور الصديقة. ويرفض اللعبة. هي أمه وهو يحبها كأم. الصداقة علاقة تربطه بآخرين، خارج الأسرة. وهي تواظب على خلط الأدوار. تدعوني بابا وتريد أن تكون صديقة ابنها الأكبر.

غلاف الرواية- لوحة للفنان خالد حافظ
غلاف الرواية- لوحة للفنان خالد حافظ

أما الحب فمن نصيب آدم. الشيطان الصغير، خفيف الروح والحركة، صاحب المقالب المضحكة والصراخ والدموع، صاحب التعليقات اللماحة والنظرة الناعسة والابتسامة العذبة، يوجهها لأمه كلما هلت فتحتضنه وتهدهده وتضحك منتشية فيخرج لسانه لأخيه مستثيرا غيرته. بين نورهان وآدم تقارب في الأمزجة، وعلاقة تمر من بوابة اللمس والضحك والحكايات. بينها وبين مالك حب وثقة لا يحتاجان لشرح أو تفسير أو لمس. مرت أشهر على بلوغ مالك الثانية عشرة من العمر. عندما اكتشف أنه أصبح أطول من أمه بعدة سنتيمترات أعلن منع العناق بينه وبينها والاكتفاء بلمس الأكتاف أو نقر قبضتي اليد المضمومتين على طريقة الفتيان من جيله. أما “آدم حبيبي” فما زال أقصر من نورهان بعدة سنتيمترات. وما زال يلجأ لحضنها ويقبلها على خدها كل صباح وكل مساء.

– اتصلت بك أليشيا وتركت رسالة. تقول إنها أرسلت لك إيميل وتنتظر الرد غدا على الأكثر.

– حقا؟ سأراجع الإيميل في الصباح.

– لم تخبرني أنها عادت إلى كندا.

– نسيت. عادت منذ شهرين بعقد مؤقت في وندسور.

– رسالتها مقتضبة، تبدأها بجملة “مرحبا نور وكريم”… وكأننا كنا معا بالأمس. لماذا وندسور بالذات؟

– حصلت على وظيفة مدرس بعقد محدود. أعلن عنها القسم في الربيع الفائت، تذكرين؟

– جاءت في سبتمبر الماضي إذن؟

– صحيح.

لا أحب نبرة صوتها وهي تستجوبني عن أليشيا. يخيفني احتمال العراك قبل النوم. سيطير النوم من عيني لمجرد ذكر الاسم ولشعوري بأن نورهان تعرف، أو تخمن، أو تتكهن بما قد يحدث بيني وبين أليشيا. ثم أني أشتاق إلى حضنها، ولن يقف شيء ولا إنسان حائلا بيني وبين عناقها الليلة.

– لم أخبرك. التقيت بدكتور كمال في القطار اليوم. تذكرينه؟

– لا. لا أذكره. من هو؟

– كمال المصري، من قسم الأدب المقارن. زوجته تعمل معك بالوزارة. السيدة ناهد غانم. أخبرني أن زوجته تعرفك جيدا. قال إن المصريين في المهجر يعرفون الكثير عن بعضهم البعض لكنهم يتجنبون اللقاء المباشر.

– المهجر؟ هل مازال الناس يستخدمون هذه الكلمة؟

– غريب أليس كذلك؟

– وهل يعرف أليشيا أيضا؟

– أليشيا ليست مصرية (أداري استيائي بالابتسام).

بشعرها الأحمر الغزير الذي ينسدل في تموجات سخية وأنفها الدقيق وشفتيها المكتنزتين، ظهرت أليشيا في حياتي مرتين. الأولى في السنوات الأولى من برنامج الدكتوراه، والثانية منذ شهرين في وندسور. فزعت حين رأيتها مؤخرا في اجتماع قسم الإعلام. قدمها لنا رئيس القسم مرحبا بها كزميلة جديدة بعقد محدود. مهمتها فضلا عن تدريس كورس الإنتاج السينمائي تصميم كورس جديد في العلوم الإنسانية الرقمية.

لم تتغير كثيرا إلا من بعض التجاعيد حول العينين خبأتها تحت نظارة أنيقة وطبقة من المساحيق. لكنتها الفرنسية تشي بأصول من أوروبا الشرقية تختلط بكلمات جرمانية. كانت بولندية الأب، ليتوانية الأم، تعلمت اللغة الفرنسية في سن مبكرة واستخدمتها فضلا عن الإنجليزية للدراسة والعمل. درست التصوير بكلية السينما، ثم قررت التخصص في هندسة الصوت ثم غيرت التخصص في السنة الثالثة والتحقت بقسم دراسات الميديا. عملت بشركة إنتاج أغاني، وسافرت والتحقت بجامعة “كورنيل” حيث أنهت الماجستير في عامين وعادت لمونتريال لعمل الدكتوراه في الكلية التي التحقت أنا بها، في البرنامج نفسه، في العام نفسه.

رأيتها من ظهرها أول مرة في الممر المفضي لكافيتريا الجامعة. كانت أردافها متماسكة تتحركان بشكل مثير ولافت للنظر في سياق الحرم الجامعي، حيث يندر أن يرى المرء فتيات حسناوات يباهين العالم بمفاتنهن. كنت بصحبة زميلة كيبكية نادتها فالتفتتْ وتوقفتْ للسلام وحدث التعارف. ثم اعتذرتْ أليشيا عن الجلوس معنا متعللة بحاجتها لإنهاء قراءة مقال قبل الصف، واختارتْ مائدة بعيدة وظلتْ مديرة ظهرها لنا حتى غادرنا الكافيتريا. لم أصدق أن لون شعرها طبيعي وسألت زميلتي فاستنكرت السؤال ولم ترد. ما الفرق؟، كل البنات يصبغن شعرهن في كندا. مسألة حرية شخصية.

تقاربنا أنا وأليشيا في سمنار مناهج البحث ببرنامج الدكتوراه واندمجنا في شلة تضم طوني من أصل لبناني ولوسي من هاييتي وليزا الفرنسية وآخرين. ثم دعوتها للعشاء في بيتي مع الأصدقاء. كنت الأب الوحيد في المجموعة. فرح الجميع بالتعرف على نورهان وبفرصة اللعب مع مالك وآدم، خاصة أليشيا الجميلة.

لم يكن أحد من مجموعة الأصدقاء قد تجاوز الثلاثين أو قاربها فيما عدانا أنا ونورهان. هكذا تحولت شقتنا الصغيرة لبيت العائلة بالنسبة للكل. كانت الشقة مكونة من ثلاث غرف ومطبخ كبير، وكانت تتسع لنا ولعشرة أو يزيد من الأصدقاء يتناثرون بين غرفة المعيشة والمطبخ وغرفة الولدين. يتسلل البعض لبلكونة المطبخ الخلفية للتدخين، أو لغرفة الولدين للتحدث في التليفون أو اختطاف القبلات أو الاستلقاء على الفراش لبعض الوقت.

– أتذكرين طوني زميلنا في برنامج الدكتوراه؟

– بالطبع، هل مازال يعيش في مونتريال؟

– بل تزوج من سيدة فرنسية واستقر في بيروت. أرسل لي صور حفل الزفاف. سيزوران كندا قريبا ويتمنى أن يلتقي بنا ويرى مالك وآدم.

– سيدة فرنسية؟ كان منجذبا لأليشيا زمنا.

تصر على فتح موضوع أليشيا وأصر على تجاهله.

نعود معا للمطبخ. تشرع في وضع الصحون في غسالة الأطباق وإفراغ ما تبقى من طعام في علب الثلاجة البلاستيكية وتنظيف سطح البوتاجاز الكهربائي بهمة تجعل إليتيها تهتزان تحت الروب وتثيرانني بحركتهما اللينة. أجمل ما في نورهان أردافها. متماسكة كأنها شابة في العشرين، لكن حركتها تشي بخبرة امرأة في الأربعين. اقترب منها والتصق بظهرها وأحيط خصرها بذراعي فتتأود. تعرف اشتياقي لها وتجيب شوقي بإيقاع متمهل. تستبطئني، وأحثها.

– كفاية كدا. تعالي.

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر