كارولين كامل تكتب: درية.. أن تجرؤ على الاختلاف

“أصابتني صدمة عنيفة لشعوري بأنني كائن مختلف، لست كالآخرين. تعذبت إذ أحسست أنني مبالغة في التأمل بالنسبة لسني”. تقول درية شفيق عن نفسها في سنوات الطفولة. وفقا لما ورد في كتاب “امرأة مختلفة” لسِنثيا نيسلون الذي نشرت فيه أجزاء من مذكرات درية شفيق.

ولعل كلام درية عن شعورها بالاختلاف عن الآخرين ومزاجها التأملي، وصراعها النفسي الخفي، أكثر ما جذبني إليها وإلى سيرتها. فكثيرا ما كنت أشعر أني أيضا غريبة؛ حتى اليوم يتهكم عليَّ أفراد أسرتي وأصدقائي، يتندرون على تبدلات مزاجي الحادة؛ تأرجحي بين الاكتئاب واختيار العزلة وبين الجنوح إلى الصخب والتجمعات، وغيرها من الأفعال المتضادة، التي يتسم بها المصابين بـ “الاكتئاب ثنائي القطب”.

**

سيرة حياة درية شفيق تؤكد اختلافها وتميزها الإنساني. ليس فقط في محيط أسرتها وإنما حتى صراعها النفسي الذي أدَّى بها إلى أن تنهي حياتها، تبع إحساسها بهذا الاختلاف حالة من الاغتراب. جعلتها تتساءل: “تُرى ما أسباب التنافر بيني وبين الوسط الذي قدر لي أن أعيش فيه؟”.

تقول سينثيا إن درية لم تكف عن التفكير في هذا طوال حياتها. بل أن اختلافها كان أحد أسباب توتر علاقتها مع الدائرة النسائية في المجال العام. وتقول درية عنه: “سرعان ما شعرت بالمؤامرات… خاصة في الأوساط النسائية الدائرة حول هدى شعراوي والتي استهدفت إبعادي عنها”.

منذ البداية شعرت درية أن وجودها مرهون بتحقيق دور في الحياة العامة. وصفته قائلة بـ”الدور التاريخي الذي شعرت أنه ينتظرني”. رغم التحديات التي يفرضها الواقع العام حينها على المرأة في مصر، إلا أن المفارقة ما اكتشفت درية أنه التحدي الأكبر؛ أنها لم تكن ثرية كفاية. تقول: “لم أكن في ثراء هدى شعراوي لأفرض نفسي… ولكن كان يملؤني الإيمان”.

**

خاضت درية الحياة العامة، وكانت أصغر من حصل على البكالوريا حينها، وسافرت إلى فرنسا لاستكمال تعليمها بمفردها. ثم عادت إلى مصر مشحونة بالأمل، إلا أنها صُدمت برفض عميد كلية الآداب بجامعة القاهرة تعيينها في الجامعة من دون ذكر أسباب، ولكن وفقا لسنثيا يُرجح أن الرفض حدث بسبب جمالها وسلوكها العام الذي يتسم بالجرأة. خاصة وأنها قد سبق – في مراهقتها – أن شاركت في مسابقة ملكات الجمال دون علم أسرتها، وحصدت المركز الثاني.

تُعد درية واحدة من رائدات حركة تحرير المرأة المصرية. ويُنسب لها حصول النساء على حق الانتخاب والترشح، بعد أن اقتحمت البرلمان في العام 1951 للمطالبة بحق المرأة في الترشح وخوض الانتخابات البرلمانية.

وفي العام 1957 وصفت الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بالديكتاتور واعتصمت في سفارة الهند في القاهرة للمطالبة برحيله عن الحكم. فأصدر الأخير حكمًا عليها بالإقامة الجبرية في منزلها. وتم محو اسمها من كل وسائل الإعلام بل وتشويه سمعتها، وتخلى عنها غالبية من حولها. حتى أنهت حياتها العام 1975 وهي في السابعة والستين من عمرها.

تحقق درية في المجال العام كان له ضريبة ضاعفت من المعاناة الداخلية. سمتها هي “التعاسة المرتبطة بالعظمة”. تقول: “كذلك، يبدو أن معظم النساء العظيمات اللاتي ذكرهن التاريخ خاصمتهن السعادة، ولكن ذلك خيارهن. إذ يبدو أنهن فضلن حياة ذات مغزى، وإن كانت تعيسة، على حياة هنيئة، ولكنها غبية”.

**

لذلك ببساطة خلال ما يقرب من عشرين عامًا من الإقامة الجبرية والعزلة الاختيارية، يمكن تخيل ما حدث لنفسية هذه المرأة التي عدت نفسها من ضمن النساء العظيمات. كان أقل ما قيل عنها إنها شعلة متوهجة من النشاط وحب العمل. تؤمن بأنها مكرسة لدور تاريخي وهو ما تحقق بالفعل فيما أنجزته للمرأة المصرية. وتعشق التواجد في المجال العام، سواء بالتصريحات الجريئة أو الأفعال القوية مثل اقتحام البرلمان أو الاعتصام في سفارة الهند، وغيرها من الممارسات التي تجعل الأضواء مسلطة دومًا عليها.

اهتمامها بمظهرها كان دور آخر تمارسه باحتراف. فكانت تقول: “من أول الأسئلة التي تطرح نفسها على المرأة المتعلمة، هو كيف تحافظ على أنوثتها”، ومن خلال الصور القليلة المتاحة لها تبدو دومًا في كامل أناقتها بحاجبيها المتميزين.

**

الاختلاف والوحدة متلازمان بشكل كبير إذا ما ضرب أي منهما شخصية المرء. ومن هنا بدأت معاناة درية كما أظن. على مدار حياتها دفعت أثمانًا باهظة بسبب اختلافها أحيانًا، أو بسبب آرائها ومواقفها السياسية أحيانًا أخرى. وبدت علامات هذا الاختلاف منذ الطفولة وانشغالها بالأسئلة عن المحظور، الأمر الذي جعلها تتعرض للعنف أحيانًا. تقول: “أردت أن أعرف منه (أبي) شكل وجه الله؟ ولكني أحجمت عن طرح أسئلة أخرى تجنبًا لمزيد من الصفعات”.

كما وضحت سنثيا أن درية كانت مهمومة بالتعرف على هوية الله. تقول: “انشغلت الفتاة أيضا بمحاولة فهم ماهية الله.. إذا تعددت تفسيرات المحيطين بها للذات الإلهية”. وأتذكر أني كنت مثلها، ولكن على عكس درية سألت أبي عن الله وجاوبني بما هو منصوص عليه في الإنجيل. ولكن ما قاله لم يكن كافيًا بالنسبة لي، بل على العكس كان مثيرًا للتساؤل أكثر. وكلما أمعنت في الحديث مع أبي، ننتهي بسؤال استنكاري: “يا كارو يا بنتي.. ليه عيلة زيك في ابتدائي بتسأل الأسئلة دي بس”. فكنت أبكي وأجاوبه: “عشان خايفة تموت أنت أو ماما.. وعايزة أقول لربنا بلاش يموتكم”.

على الرغم من استمرار حيرة درية وتساؤلاتها عن تلك الغمامة التي تغلف حياتها، إلا أنها تعرفت كثيرًا على السعادة، فهي تقول “أضفى مولد ابنتي على حياتي حلاوة”. وفي موضع آخر “كنت سعيدة إذ رزقت ببنات، فهن قريبات إلى قلبي.. وكلما ابتسمتا لي شعرت أن الكون بين يدي.. يرحب بي ويواسيني ويلف روحي المعذبة في غلاف من الطمأنينة الحميمة”.

**

إلا أن سعادتها بالأمومة لم تحول دون احتدام صراعها الداخلي الذي يكدر صفو شعورها بالراحة أو السعادة. تقول: “على الرغم من كل عناصر السعادة في حياتي، كنت أحس بخواء فظيع في قلبي.. نوع من العدم وراء كل تلك الحركة التي تتسم بها حياتي.. كنت أشعر أن شيئا ما ينقصني وحاولت أفهم سبب هذا الشعور بأنني مقتلعة من جذوري”. وتضيف: “يمر الوقت وكأني أغوص في رمال ناعمة تائهة وضائعة، لا أشعر أنني أنتمي إلى أي مكان”.

المعاناة النفسية التي عاشتها درية التي أحكمت قبضتها على روحها، حتى أنهت حياتها بنفسها، ربما يمكن في الوقت الحالي تسميتها اكتئابًا أو أي تشخيص نفسي آخر، ولكن مع اختلاف التشخيصات والتسميات، فإن هذا الصراع النفسي يُعد معركة يخوضها المرء بمفرده، على الرغم من النجاح والأسرة وغيرها من معطيات الحياة، إلا أنها أحيانا لا تكفي ليتجاوز المرء ألمه ومحنته، وكانت كلمات درية في قصيدتها “رجوع بالزمن للوراء” صرخة حقيقية، حيث تقول:

البحث عن الكلمات

هل توجد كلمات لتقول ما لا يوصف؟

طريق لا ينتهي.. طريق الألم..

عذاب لا نهاية له..

لا يمكن اختصار حياة هذه السيدة أو معاناتها في كلمات قليلة. حيث أنها لعبت أدوارًا عدة وتفوقت في كل منها، بداية من السعي للعلم والمعرفة، وإنجازها التاريخي في مجال حقوق المرأة، أمومتها، تحملها إقامتها الجبرية، صراعها النفسي وغربتها، ولكن يُخيل إليَّ إذا ما أمكن سؤال درية شفيق ماذا تريد أن تقول عن نفسها، فإجابتها ستكون: “أن أعرف، وأن أقدر، وأن أريد، وأن أجرؤ”، هكذا كما كانت تردد طوال الوقت عن شعارها في الحياة.

اقرأ أيضا

ملف| راوية صادق تكتب: «درية شفيق»أو الطريق الشاق إلى المعرفة

كرم يوسف تكتب: طنطا التي تلفظها درية شفيق.. وأحبها أنا

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر