في مولد “القناوي”.. ما لا تعرفه عن “سيدي عبدالرحيم” وضريحه ذي الـ823 عامًا

لا يموت الإنسان ما دام له أثر، وأثر سيدي عبدالرحيم القنائي هو المحبة والعلم، لا تستطيع حصره في مسجد ومقام وضريح، زخم وصلة إنسانية وروحانية متواصلة بين الأجيال المتعاقبة من أبناء محافظة قنا، رغم مرور ما يقرب من 823 عامًا على وفاته، مع طول المدة يبرز سؤال من هو وما سر هذه المحبة المتوارثة وكأنها أثرًا حيًا ضاربًا في جذور الأرض؟

من هو عبدالرحيم القنائي؟

عبدالرحيم بن أحمد بن حجون بن محمد القنائي، مغربي الأصل وفق خير الدين الزركلي في كتابه “الأعلام”، وبحسب الدكتورة سعاد ماهر محمد في كتابها “مساجد مصر وأولياؤها الصالحون” الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، ولد القنائي في مدينة ترغاي بإقليم سبته في المغرب الأقصى عام 521 هجريًا، أمضى طفولته في تحصيل العلم في جامع ترغاي الكبير على يد والده، وكبار العلماء، فلم يكد يصل الـ8 من عمره حتى حفظ القرآن الكريم وجوده تلاوة وفهمًا.

أزمته ورحلته من ترغاي إلى القاهرة

الطفل الذكي المحب للقرآن عبدالرحيم، كان متعلقًا بوالده الذي يعتبره القدوة الحسنة والمثل الأعلى، حتى حين توفي والده وهو في الـ18 من عمره تأثرت صحته وساءت حالته النفسية ومرض مرضًا شديد حتى أصبح شفاؤه ميئوسًا منه، مما اضطر والدته السيدة العربية لإرساله إلى أخواله في دمشق، الذين أكرموا وفادته وسهلوا عليه الاتصال بكبار العلماء والفقهاء لمدة عامين في دمشق نهل خلالهما من علوم المشارقة كما تفقه في علوم المغاربة، قبل أن يطرق بابه الحنين للعودة إلى ترغاي مسقط رأسه.

وفي عمر الـ20، دعي الشاب الفطن عبدالرحيم القنائي، الذي كان لامتزاج الثقافتين الشرقية والغربية أثرهما في شخصيته التي أصبحت مصقولة متكاملة رغم حداثة عمره، ليحاضر بحلقات الدرس في المسجد ويحل محل والده، امتلئ المسجد ليس فقط بأهل ترغاي بل ومنطقة سبته، ليروا ابن شيخهم العائد من دمشق معلمًا محملًا بثقافتي الشرق والغرب، حتى ظل 5 سنوات واعظًا ومرشدًا عن واجبات المسلم نحو ربه ومجتمعه بأسلوب مؤثر وآخاذ.

في هذا الوقت كانت أحداث المشرق على أشدها، حيث تكتل الاستعمار الأوروبي المقنع تحت اسم الصليب للهجوم على بلاد المشرق، شغلت الأحداث تفكيره بقوة لتوجهه للشرق إيمانًا منه بوجوب تكتل كل قوى المفكرين من المسلمين لحماية الدول الإسلامية وتعبئة كل القوى المادية والمعنوية لحمايتها من التفكك والضعف والانحلال، وجاءت وفاة والدته لتعجل برحيله من ترغاوي إلى الحجاز لتأدية فريضة الحج، مارًا بمدينة الإسكندرية والقاهرة أثناء رحلته، مما ترك أثرًا كبيرًا في نفسه، ورغم قضائه 9 سنوات متنقلاً بين مكة والمدينة تاجرًا في المحاصيل سعيًا وراء الرزق حتى يستطيع التفرغ للعبادة والعلم دون أن يكون عاله على أحد.

إلى قنا

في موسم الحج العاشر بمكة التقى القنائي بأحد الشيوخ الأتقياء الورعين القادمين من مدينة قوص بمحافظة قنا، مصر، وهو الشيخ مجد الدين القشيري، الذي كان يعمل حينها إمامًا للمسجد العمري بقوص، وكانت له مكانته المرموقة بين تلاميذه ومريديه، وبعد تعارف وألفة أصر القشيري على اصطحاب القنائي إلى مصر تحديدًا قوص وقنا، حيث مجتمعها متعطش لعلم وفضل أمثاله من أولياء الله الصالحين حينها.

يقول السيوطي عن ذلك: ومازال الشيخ يحاوره ويدلل على حجمه وعلى أن عبدالرحيم ليس له ما يربطه بمكة والمدينة أحد أو شئ، وأن واجبه الإسلامي يدعوه إلى الإقامة في قوص أو قنا ليرفع راية الإسلام وليعلم المسلمين أصول دينهم وليجعل منهم دعاة للحق، وبعدها وافق القنائي، كان ذلك في عهد الخليفة العاضد بالله آخر خلفاء الدولة الفاطمية.

وبعد 3 أيام بقوص لم يرغب عبدالرحيم القنائي في البقاء فيها وفضل الانتقال إلى مدينة قنا، تنفيذًا لرؤى عديدة أخذت تلح عليه في الذهاب إلى قنا والإقامة بها، ولأن قوص مليئة بالعلماء والفقهاء وكبار المفكرين من أهل الدنيا والدين حينها، وألتقى في قنا بالشيخ القرشي أحد أوليائها الصالحين انعقدت أواصر الألفة بينهما وتحابا وتزاملا في الله.

منهجه في الحياة

ظل عبدالرحيم القنائي في حياة التأمل عامين كاملين يتعبد ويدرس ويختلي بنفسه ليتعرف على خباياها، وساعده جو قنا الهادئ على ذلك، فلا يقطع عليه هذا الاختلاء وذاك التعبد إلا خروجه للتجارة التي يعتمد عليها في معايشته فمنهاجه في طوال حياته هو العمل بيده لكسب قوته، وقد ربح من تجارته ساعده ذلك على الإنفاق على فقراء الطلاب والراغبين في العلم وغير القادرين من أبناء المسلمين.

مدرسته الصوفية

لعبدالرحيم القنائي مدرسته الصوفية الخاصة التي تسمح للطرق الصوفية الأخرى بالأخذ منها من غير الخروج على طرقها، كان يقول: إن الدين الإسلامي دين علم وإخلاص، فمن ترك واحدة فقد ضل الطريق، وقد أفاض في شرح نظريته هذه في كتاباته إذ كان يهتم  رضي الله عنه دائمًا بالحديث عن العلم، إيمانًا منه بأن العلم دعوة سماوية ومتممة للعمل، ومن مؤلفات الشيخ عبدالرحيم القنائي تفسير القرآن الكريم، ورسالة في الزواج، وكتاب الأصفياء.

وذكر عنه كتاب صحيح الجامع: اتفق أهل زمانه على أنه القطب المشار إليه والمعول في الطريق عليه، لم يختلف فيه اثنان ولا جرى فيه قولان، ولو لم يكن من أصحابه إلا الأستاذ الإمام أبوالحسن علي بن حميد الصباغ لكفاه من سائر الأمم، «ولئن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم» فإن سر الشيخ رحمه الله ظهر فيه حتى نطق بالمعارف بملء فيه، وأبدى من سره ما كان يخفيه.

لماذا سمي بالقنائي؟

عندما تولى الأيوبيون مقاليد الأمور في مصر عملوا جاهدين على القضاء على المذهب الشيعي السائد في عهد الدولة الفاطمية من خلال نشر المذهب السني عن طريق تولية شؤون البلاد وحكمها لأصحاب المذهب السني خاصة المذهب الشافعي، وأصدر الملك العزيز بالله ابن صلاح الدين الأيوبي قرارًا بتعيين عبدالرحيم القنائي شيخًا لمدينة قنا، ومنذ ذلك الوقت عرف الشيخ بالقنائي.

وجدير بالذكر أن الشيخ تزوج بابنة الشيخ القشيري وبعد وفاتها تزوج 3 أخريات، وأنجب منهن 19 ولدًا وبنتًا، واستقر بقنا وكان مركزه زاوية بجانب ضريحه الحالي يجتمع فيها بالوافدين عليه من كل مكان، حتى توفي في 592 هجريًا عن عمر يناهز 72 عامًا.

المسجد

أما عن مسجد عبدالرحيم القنائي الملحق به ضريح، الموجود حاليًا، فيرجع إلى النصف الأول من القرن العشرين، وهو حل محل الزاوية التي بناها الشيخ في حياته والتي كان يتعبد بها ويستقبل فيها زواره ومريديه، ويتكون المسجد من صحن مربع مغطى بسقف به “شخشيخة” تعلوه قبة صغيرة ضحلة، ويحيط بالصحن 4 إيوانات عميقة متعامدة، أكبرها إيوان القبلة ويقع في الجهة الشرقية من المسجد، ويتقدم كل إيوان عمودان كل منهما مكون من عمودبن ملتصقين، ويعلو العمودين 3 عقود تكون واجهة الإيوان.

والمدخل الرئيسي للمسجد يقع في الجهة الجنوبية وهو مرتفع إذ يصعد إليه بـ6 درجات وتتقدمه مظلة ذات أعمدة، وفي الركن الجنوبي الشرقي للمدخل توجد مأذنة الجامع، وخلف الإيوان الشمالي يوجد الضريح، وهو عبارة عن غرفة كبيرة مربعة تعلوها قبة ترتكز على رقبة تقوم على دلايات قصيرة في أركان المربع وخلف الإيوان الغربي توجد دورة المياه.

الضريح

وفي كتابه “سيدي عبدالرحين القنائي.. تاريخ وذريات” يوضح الباحث التاريخي أحمد الجارد أن عباس الأول، والي مصر، أوقف 50 فدانًا للصرف منها على ضريح سيدي عبدالرحيم القنائي، وفى عام 1931 عملت الحكومة المصرية له كسوة من أسلاك الذهب، وفى عام 1948 بنى له الملك السابق فاروق الأول الضريح الحالي، وفي عام 1967 أهدى إليه الرئيس الراحل جمال عبدالناصر كسوة مطواة من الذهب، وفي عام 1980 أهدى إليه الرئيس الراحل محمد أنور السادات كسوة فاخرة، وفي عهد الرئيس محمد حسني مبارك تم توسيع المسجد الحالي وبناء مساحة مماثلة للمسجد لاستيعاب زيادة المصلين وأحبابه الزوار من جميع المحافظات، ومنذ سنوات قليلة تحت إشراف المحافظ اللواء عادل لبيب تم تجميل المسجد بالكامل، وتم إنشاء مسجد مفتوح بمساحة قدرها 800 متر.

وهناك أقاويل أيضًا عن قيام شيخ العرب همام، أمير الصعيد في زمن المماليك بتطوير المسجد أيضًا وفرشه بالحصر.

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر