أحمد زغلول الشيطي يكتب: مثل السير على القدمين

حين يتعلق السؤال بالكتابة، يلح مجاز التائه في صحراء مترامية، وهو مجاز يختلف عن مجاز الغريق في بحر بلا ضفاف. فالصحراء تعيد حركة الرياح تشكيل معالمها على الدوام. ومن ثم فالضياع في الصحراء أفقي، بينما يكون الغرق هبوطا إلى الأعماق، قبل أن تقذف الأمواج “أجمل رجل غريق في العالم” إلى الشاطئ.

على الرغم شريط المياه النحيل للنهر نحن محاطون بالصحاري. وقد ترك “بورخيس” توقيعًا مفاده أن الصحراء هي المتاهة المثالية، أما عن كيف؟ ولماذا؟ ولمن؟ أرى أن من الإنصاف استخدام المجاز الصحراوي، وما يستتبعه من رمال متحركة، وشموس تنصهر في نهارات طويلة متشابهة.

**

يترك هذا المجاز الباب مفتوحا أمام احتمال مراوغ؛ مجرد القدرة على السير قد تفتح بابًا للخروج من الفخ الصحراوي إلى النبع، الواحة، أو الوحش. في حين أن مجاز الغريق ضيق، يفترض ابتداءً امتلاك مهارة السباحة. وهي كفاية غير ملحة للاستمرار في الحياة، يمكنك دائمًا التشبث بقطعة طافية من الخشب، ومغالبة الرعب من أن يبتلعك حوت أبيض، أو يقضم ساقك، مثلما انتقم من” آهاب” صائد الحيتان بطل “موبي ديك”.

لعل الكتابة هي سير إلى الأمام أو في النقطة ذاتها وربما سير إلى الخلف. سير، قفز، التفاف، أو عرج. تشبه الكتابة السير على القدمين، أو الخطو فوق حبل مشدود. ربما تقطع هذا الشارع بالعرض وسط سيارات متدافعة، أو تقطعه بالطول في اتجاه السير، وربما عكس الاتجاه. وبدون أي اتجاه عليك أن تستمر لتصل إلى ما تريد، علبة السجائر، المرأة المنتظرة في المقهى، ابنتك التي في الحضانة، صديقك الغائب منذ سنوات، ولا تعرف إذا ما كان الزمن قد نال منه؟ لا يقين أنك ستصل إلى إجابة، الزمن غالبا ليس خطيًا. حتى وإن بدا خطيًا فهو متعدد، متواز، أو متقاطع أو مشتت، يمكن القول إن الزمن فوضوي أو رتيب، وهو زمن لا أحد، أو زمنك يتقاطع من أزمنة أخرى دائرية أو خطية، منحنية، ملتوية، أو مستقيمة إلخ.

تبحث عن والدك الجندي الذي ابتلعته رمال سيناء في حرب 1956 ولم يعثر له على أثر، على الرغم من ذلك تستمر في السير، وحدك، أو وسط جموع، يدهشك عدد السائرين، لعل السير هو أقدم مهنة في التاريخ. هناك جوائز للسير، على أن أغلب أصحاب الخطوة، المتبتلين في محاريب المشي، لا ينتظرون أي جائزة.

أحمد زغلول الشيطي
أحمد زغلول الشيطي
**

تدخل لتستحم، تحلق ذقنك، ترتدي قميصك، تستمع إلى نشرة الأخبار، تنتظر الاسانسر، تهبط، لا أمل أنك ستجدها، ربما نامت، ذهبت، انتابها اليأس فجأة، غيرت اتجاهها، لا تأكيد. قد يذهب العمر هباء، قد يفاجئها انقطاع الطمث، ويفاجئك أن لقائكما يتحول رويدا إلى عملية جراحية شاقة، بالرغم من ذلك تستمر. تشبه الكتابة السير، لكنها لا تتطابق معه. لا تدرك الكتابة ما إذا كانت ستصل إلى المرأة، النبع، الطفلة.

يعلم الكاتب أنه ليس أول من سار ولا آخرهم، وأن لا جائزة لأفضل من ذهب ليشترى علبة سجائر. إن وجدت الجائزة فلا بأس بها، تشبه الجائزة قبلة عابرة سريعة الزوال، هي غير كافية للاستمرار ومتابعة الطريق نحو الضفة الأخرى من الشارع، لن تتوقف الحياة بعد الجائزة لتكون رسالة ختامية فوق القبر.

يدرك الكاتب أن المحنة هي مطاردة خط وهمي إلى النهاية، هي السير العميق داخل المتاهة الصحراوية على مسئوليته ووفق تقديره وحده. هو يعلم أن من بين كل الطرق الممكنة هناك طريق واحد للخروج، للوصول إلى قلب المرأة في مقهى الطابق الرابع. لحمل البنت على كتفيه وهو يعبر ميدان التحرير بينما يحك صندلها قميصه، لرؤية كم شاخ وجه صديقه ومع ذلك بقي طفلا.

** 

يقول: علي أن أخرج/ لابد أن اكتب ما هو مبهر ومكتنز، لماذا هذه المسؤولية، هذا التحدي، اختراق المستحيل، ألهذا علاقة بى فقط؟ بمولدي؟ الشارع الذي خطوت فيه خطواتي الأولى؟ مشاحنات الأخوة؟ الدراما العصية على الاحتواء أو إنشاء معادل لها؟ انسدادات الزمن، ألا يمكنك القبض على ما حدث لأنك جزء منه؟

لكنك لا تحكى ما حدث، تحكى ما يمكن أن يكون قد حدث، تتحرك ضد ذاكرتك، ضد ما تعرف. تريد إنشاء أسطورة تجهلها لحيوات ممكنة، حيوات محتملة. كان يمكن أن تكون حياتك، تتناهى إليك أخبار شارعك الذي غادرت دون رجعة، بتهور من لا يرغب في النظر إلى الخلف، شارع “البندر”.

هذا الشارع المصنوع بقرار حكومي، هدمت بيوت، أو استقطعت أجزاء منها، لصنع شارع مزدوج، ترى نصف حجرة متبقية ما بعد الهدم، وستارة من بقايا خرق ملونة صنعت على عجل بمعرفة ست البيت لمداراة ما كشفه الهدم. سوف تسير في الشارع عربات شرطة كثيرة، ففي نهاية الشارع أنشئ سجن، هل أنت جزء منه؟ عرفت أن الشوارع تصنعها أقدام السائرين، قبل أن تحتلها السلطة، ليصبح كل شارع واجهة للقوانين المتغيرة.

**

تفكر باللغة، اللغة التي ستصبح كتبا فيما بعد، التي ستدخل دورة ندوات، صحف، حفلات توقيع، مناقشات، كاميرات. ثم الصمت، وما حاولت اجتراحه لازال كما هو، في مكانه لم يمس، ليس أمامك إلا اللغة المحملة بتاريخها، والتلصص على الجميع لحبك أدبك.

ماذا يجدي “سعيد مهران” أن رواية أطلقته، كثافة النص لا نشبه اهتراء الحياة اليومية، الحياة والموت داخل فيلم عظيم لا نشبه البحث عن مأوى في مدينة أنت غريب بها ولا مأوى لديك. تراجع بروفات الطبعة الثالثة من كتابك الأول، كأن واحداً آخر قد كتبه، يأخذك الإيهام، تطارد الصفحات للوصول إلى الختام، إلى ما سينتهي كل شيء.

تحمل الصفحة الأخيرة تاريخ انتهاء الكتابة، كنت في أواسط العشرينيات، لازالوا يقولون إنه الكتاب الذي صنع اسمك، بيد أنه الكتاب الذي صنع اسم من كنته. وأنا أحاول أن اكتب كتابي الآن لاختبر قدرتي على السير على القدمين، وحمل الطفلة على الكتفين، وتقبيل المرأة في الاسانسير، وممارسة التجديف مع صديق الزمن الضائع. هل ضاع لأنه انقضى؟ أم لأنه جمع غنمه وحمل خيمته ورحل؟ لازالت ذاكرة هشة، مشوشة، تستعيد التهجير الملحمي للغجر من مخيمهم المجاور لبيتكم المكون من طابق واحد، مبني بالطوب الأحمر، ما لذي تبقى لتكتبه.

**

هل ينبغي أن تكون غجريًا لتكتب عن الغجر؟ هل يكفي أن تقول إنهم صانعو مفاتيح، وأنهم لصوص، ومربو أغنام، وأن نسائهن الجميلات ذوات العيون الزرقاء يرقصن. بينما يشحذن، وأنهن يكشفن عن الكيلوت في ذروة عملهن في الموالد. وأنك رأيت هذا بنفسك وأنت في نحو السادسة؟ وأن هذا في النهاية هو عملهن؟ يشبه ذلك أن تذهب إلى لندن ثم تخبرنا كتابة أنها كانت تمطر طوال الوقت.

هو إذن السؤال الذي واجهك دائما، ماذا تكتب، وكيف تكتب؟ ولماذا؟ إلخ. هذه هي نوعية الأسئلة التي سوف تطاردها وتطاردك، دون أمل ودون إجابة، ما سوف تكتبه هو محاولة ناقصة على الدوام.

عليك أن تثمن لحظات الكتابة وإعادة الكتابة، وقبل ذلك ينبغي أن تهتم بالصمت. لأنه الوجه الآخر الأكثر حساسية، لهدير المطابع فيما تم الانتهاء منه والدفع به إلى مصيره. تداعب المجاز كلما تيقنت إنك على الطريق، بينما تنغرز قدماك في الرمال، كلما أرجف قلبك اتساع الصحراء، وحريتك اللانهائية مثل عقاب. في أن تذهب إلى أي اتجاه دون أي علامة سوى ماتراه أنت.

 اقرأ أيضا                                                                                   

عرض كتاب “اللوح الأزرق” لجيلبرت سينويه

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر