نظرة إلى معارض الكتب العربية: أفكار للخروج من سجن البيروقراطية

شكلت معارض الكتب واحدة من الظواهر الثقافية عالميًا، من حيث دلالة أعداد القراء الذين يذهبون إليها لشراء الكتب التى تتناسب مع اهتماماتهم، وتخصصاتهم، وأذواقهم القرائية، وذلك مع بعض التخفيضات التى تقوم بها دور النشر فى هذه المناسبات السنوية، أو غيرها. فى المجتمعات الأكثر تطوراً كانت الأعداد الضخمة للزوار، وأعداد الكتب المشتراة -فى الأدب، والفن، والفلسفة، والعلوم الاجتماعية، والعلوم الطبيعية والرياضيات- دلالة على تطور مستوى الوعي والمعرفة الفردية خاصة فى ظل الدراسات التى تجريها مراكز البحث الاجتماعى، ودور النشر عن توجهات القراء، وتحليلها، على نحو يساهم فى إعادة صياغة سياسات النشر لدى هذه الدور الشهيرة الكبرى، وأيضا الصغري. فى دور النشر الكبرى والصغرى هناك دائما لجان قراءة للنصوص المقدمة للنشر لديها، وفى حال الموافقة الأولية على المخطوطات المقدمة، تقدم إلى محررى -أو محرر- الدار، لينظر فيها، ويقدم للمؤلف ملاحظات على العمل، لكي يعيد صياغته، لينشر فى أفضل وجه من الوجوه.

دور المحرر بالغ الأهمية، حتى مع كبار الكتاب، أو الشباب، والأهم أن المحرر عادة كاتب كبير ذو ثقل فى الحياة الفكرية. مع تطور التكنولوجيا والذكاء الصناعى، حدثت ثورة فى النشر الرقمى، والورقى معاً، سواء من خلال تحديد أعداد الكتب بدءاً من نسخة إلى الآلاف النسخ وقد تصل إلى مئات الآلاف من النسخ، وفق حالة الطلب القرائى على الكتاب. الأجيال الجديدة من القراء فى المجتمعات المتقدمة تعود بعضهم على القراءة الرقمية، وبعضهم لا يزال يستهلك الكتب الورقية.

معارض الكتب العربية لا تشهد مثل هذه الظواهر المعروفة، من فحص لمخطوطات الكتب، وتقويمها من حيث أهمية موضوعها، ومدى توافر الشروط الموضوعية، والنقدية فى هذه المخطوطات، أو جودتها وعمقها، أو سطحيتها أو تفاهتها أو سطحية المعالجة او غياب المنهج او عدم صلاحيته، وإنما تخضع لمعايير أخرى فى الغالب- وهناك استثناءات محدودة، وذلك لغياب التخصص فى دور النشر، وعدم تبلور رؤى وسياسات للنشر لديها.

***

يخضع النشر لاعتبارات الرواج بقطع النظر عن مدى تأثير غالب الرواج الاستهلاكى القرائى على تطور الثقافة، أو تراجعها. بعض النشر يعتمد على تمويل “الكاتب/ الكاتبة”، لطبعة، وهامش ربح الكتاب للناشر، سواء أكان من داخل البلاد، أو من دول اليسر المالي العربي!

دور النشر الحكومية غالباً ما تنشر الأعمال دونما مراجعات موضوعية وجادة، وإنما تعتمد على عدم تناول أمور سياسية، أو دينية، أو اجتماعية حرجة، تجعل موظفى، وأعضاء لجان هذه السلاسل موضوعا للمساءلة الإدارية، أو الجنائية! ومن ثم يؤثرون السلامة فى اختياراتهم. الأخطر، أن يتم  النشر فى عديد الأحيان، وفق اعتبارات المحسوبية، أو النفوذ، أو الصداقة مع الكاتب، والكاتبة. الأخطر أيضا أن عديد هذه الكتابات يتم تمريرها، ونشرها دونما تحرير، والأخطر أنها موضوعات مكررة، سبق تناولها فى عديد الكتابات السابقة الأهم، ولا تعكس مشكلات التطور الاجتماعى والسياسى، والثقافى، والديني في هذه البلدان!

فى السنوات الأخيرة، يتم نشر أطروحات جامعية في بعض البلدان العربية يعرف الجمع كيف تم تمريرها من بعض لجان التحكيم الجامعية، وبعضها ينطوى على فضائح، وفساد علمى فى عديد البلدان العربية على نحو ما ترشح في بعض وسائل التواصل الاجتماعي او بعض الصحف والمجلات العربية أو بعض مواقع البحث على الشبكة العنكبوتية.

من هنا يتم تركيز البيروقراطية فى الأجهزة الثقافية الرسمية في بعض البلدان على أعداد زوار معارض الكتب، وخاصة فى ظل غياب العقل الإدارى الخلاق، ولجان التخطيط للمعارض، من حيث تحديد عنوان المعرض، وغالباً لا يكون دالاً قط على أحد القضايا الأهم فى الحياة الثقافية الوطنية، أو الإقليمية، أو الكونية فى عالم يتحول فى سرعة فائقة، ويأتى العنوان حاملاً طابعاً محلياً، يعكس من اختاروه، وثقافتهم، ومدى تكوينهم المعرفي، وحساسيتهم، واهتماماتهم!

***

الأخطر اللجوء إلى العناوين الآمنة التى لا تجلب لهم مشكلة مع السلطة السياسية، وخاصة تلك العناوين التمجيدية الفارغة للبلد المنظم للمعرض! فى بعض البلدان يتم اختيار شخصيات زائعة الصيت ممن رحلوا إلى العالم الأخر، من ديانة الأغلبية، ويرفضون فى أباء وتعنت اختيار شخصيات أهم من ديانة الأقلية، وهو أمر ينطوى على تحيزات دينية وطائفية، ودلالة على التمييز الدينى والطائفى، وغالبا ما يوافق بعض وزراء الثقافة على ذلك، فى حين أن اختيار هذه الأسماء يساهم في دعم الاندماج الوطنى، والوحدة الثقافية لمكونات المجتمع فى عديد بلدان عالمنا العربى.

القراءة للفنانة: بيتيت إيف
القراءة للفنانة: بيتيت إيف

 

البيروقراطية الثقافية الكسولة غالبا فى بعض البلدان العربية تركز على أعداد الزوار، وغالبا ما لا تكون دالة على الوعي، أو الاهتمام بالثقافة، لأن هذا الحضور الكبير نسبيا، لا ينعكس على حركة بيع وشراء الكتب، ولا نوعية الكتب المباعة، من حيث القيمة والأهمية. فى بعض معارض الكتب العربية فى دول اليسر المالى، تدعم الدولة دور النشر، وشراء بقايا الكتب من دور النشر، أو أعداد منها، أو تخصيص مبالغ محددة للطلاب لكي يشتري كل طالب عدد معين من الكتب، ومع ذلك تفتقر هذه المعارض لأعداد كبيرة من الزائرين، وغالبا ما يكون القراء من بعض العمالة الوافدة -السودانيين واليمنيين والفلسطينيين…الخ فى هذه البلدان!

بعض دور النشر – العراقية والأردنية والسعودية، والإماراتية والبحرينية – تخصصت فى نشر ترجمات بعضها هام، وفى إطار سياسة ما للترجمة، واختيار بعض الكتب الهامة للترجمة، فى الاجتماع والفلسفة، والسياسة، والأدب – الشعر، والرواية، والمجموعات القصصية والمسرحيات-، وفى بلدان بها بعض من الحيوية فى دور النشر، الحكومية أو الخاصة، ويعود ذلك الي بعض اختيارات المترجمين المحترفين، أو بعض العرب المقيمين فى أوروبا، وأمريكا، والصين.

***

بعض مراكز الترجمة لديها سياسة كما فى تونس، وتعطى النصوص إلى أساتذة فى التخصص سواء عن الفرنسية أو الإيطالية، أو الإنجليزية، بينما مراكز أخرى ليس لديها سياسة للترجمة، وتخضع للعشوائية، أو العلاقات الشخصية مع بعض المترجمين غير المتخصصين فى موضوعات الكتب. ازدادت بعض الترجمات تدهورًا، وعدم الدقة فى نقل النصوص، وروحها وعالمها مع الترجمة الآلية إعادة الصياغة. من هنا لابد من إعادة النظر في أوضاع مراكز الترجمة وصياغة سياسة للترجمة تتوافق مع تطورات المعرفة في العلوم الطبيعية والإنسانية. وضع سياسة للترجمة من الأهمية بمكان من حيث أولوياتها لتكوين عقل القارئ المواطن ومتابعته لتطورات الإنتاج العلمي في العلوم الطبيعية والأنسانية والفنون والآداب والمسرح، وذلك لجسري الفجوات بين الجماعات الثقافية العربية ونظائرها في المجتمعات الأكثر تطورا، ورفد الجماعات الأكاديمية بالجديد في تخصصاتها حتى تردم الفجوات في مناهج التعليم الجامعي بين السائد والقديم، وما بين التحولات والقطيعة المعرفية والنظرية والمنهجية في كل تخصص.

الترجمة وسياستها لا ينبغي أن تقتصر فقط على اختيارات بعض المترجمين، وخاصة في الروايات والمجموعات القصصية، وانما على سياسة للترجمة تعتمد على التكامل بين فروع المعرفة، وأيضا على تخصص المترجم، وخاصة في العلوم الطبيعية. ان النظرة النقدية لمعارض الكتب ترمي إلى تطويرها وليس هدمها أو التقليل من أهميتها لأن الملايين التي تذهب الي بعض المعارض العربية دونما انعكاس على حركة البيع والشراء لا دلالة لها على تطور الجماعة القرائية، خاصة أن نوعية حركة الشراء من بعض الكتب دون غيرها، او مستوي هذه الكتب من حيث الجدية والعمق في المعالجة، أو السطحية والتفاهة تشير الي الحالة القرائية في إعطاء البلد أو ذاك، من حيث تطوره الثقافي أو تدهور مستوياته.

***

أن نظرة على أوضاع الكتاب في عالمنا العربي تشير الي تدهور في بعض اختيارات دور النشر، وتميز بعضها الآخر في المغرب وتونس والأردن والعراق وبعض دول الخليج العربي. من ثم يبدو تقييم حالة النشر العربي من الأهمية بمكان، وخاصة ان المستقبل سيكون للنشر الاليكتروني وستصبح معارض الكتب رقمية مع الثورة الصناعية الرابعة والخامسة حيث ستسيطر المواقع الروبوتية على الإنتاج الكوني من الكتب ويسهل الترجمة الالكترونية من اللغات الي بعضها في دقة وكفاءة، وربما ينتهي – وهو ما يرجح – دور المترجم في الحياة الفكرية إلا قليلا خاصة مع الذكاء الصناعي!

بل ان الروبوتات ستتدخل في الإنتاج الفكري والابداعي على نحو ما ظهرت بعض بشائره في الغرب! وربما تشهد الأجيال القادمة موت المؤلف الفعلي إلا قليلا إذا شئنا استخدام مصطلح رولان بارت الشهير دون دلالته في التلقي والتمثل لصالح القارئ! الدنيا تتحول في ثورات هادئة ذات انعكاسات على أنماط الثقافات السائدة من الثقافة العالمة إلى الوسيطة إلى الشعبية! هناك تمايزات تتسع وفجوات كبري بين هذه الأنماط.

***

علي صعيد التلقي القرائي مع تدهور بعض الأنظمة والسياسات التعليمية كما يتم الحديث عنها في فرنسا وبريطانيا ناهيك عن تدهورها الشديد في عالمنا العربي في تونس والجزائر والمغرب ولبنان وسوريا والعراق ومصر والسودان وليبيا! من هنا تبدو أهمية المزاوجة بين التعليم والثقافة وسياسة الترجمة. متابعة الدرس التعليمي العام، والفني، والأكاديمي في أوروبا وامريكا الشمالية، واليابان والصين وكوريا الجنوبية، وسنغافورة، والهند، وماليزيا بالغ الأهمية لمعرفة لماذا صعدت آسيا الناهضة تنمويا! معرفة مستويات القراءة واولوياتها في هذه البلدان تشكل درسا لعالمنا العربي كي يستطيع مواكبة تطورات عالمنا وتخطي بعض الدول الآسيوية سياجات التخلف وقفزها الي مواقع متطورة ومتقدمة في عالمنا!

أن الدرس الهندي في التنمية والتقدم العلمي بالغ الأهمية لنا في عالمنا العربي، من حيث تطور واتساع القاعدة العلمية وخاصة في المجال الرقمي والعلوم الطبيعية والتكنولوجيا! مثل هذه القضايا يتعين ان تكون موضوعا لمعارض الكتب وندواتها لكي تنتقل الخبرات والمعارف الي المثقف والقارئ العربي من الأجيال الجديدة الشابة والصاعدة. من هنا يبدو التمجيد المفرط للذات خطر داهم على مستقبل الأجيال الجديدة والصاعدة عربيا. يتعين على معارض الكتب ان تقدم الشباب الموهوب من خلال اكتشافهم من كتبهم وكتاباتهم/هن الجادة والتي تطرح مقاربات مختلفة عن الأجيال السابقة التي لدي بعضها اشكال من السلوك والتفكير المتمركز حول ذواتهم الجيلية ويميلون الي ما سبق ان أطلقت عليه ظاهرة الإزاحة الجيلية، خاصة من خلال تمجيد مفرط منهم لجيلهم على الأجيال الأخرى أو ميل بعضهم إلى تقديس بعض المفكرين دون بعضهم، أو ذكورية العملية النقدية.

معارض الكتب تشكل حالة خصبة لدراسة العقل الجمعي للجماعات القرائية وليست فقط استعراضات وأرقام لا دلالة لها على مدي تطورنا الثقافي والمعرفي والعلمي.

اقرأ أيضا:

نبيل عبد الفتاح يكتب: السينما والناقد والتغير في رؤى العالم

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر